صمود غزة .. بين الأمل والخذلان في عام 2023
في عمق الأزمات والمحن، ينبثق الأمل كفجر يكسر ظلام الليل. تجسدت قضايا الشرق الأوسط لعام 2023 بين أزمات سياسية وكوارث طبيعية، لكن في قلب هذه الفوضى، كانت هناك قصة صمود وعزيمة لا تلين، قصة غزة.
تحت وطأة الظروف القاسية والحصار، واجهت غزة تحديات جمة. لكنها بقيت شامخة كالجبال، تتحدى الصعاب بكل ما أوتيت من قوة وعزيمة. وهنا يحضرني بيت شعر ابي القاسم الشابي حين قال:
“إذا الشعب يوما أراد الحياة ** فلا بد أن يستجيب القدر”
في هذه البقعة من العالم، حيث الأمل ينبت من بين الأنقاض، يعيش أهل غزة حياة تمتزج فيها الآلام بالأمل، واليأس بالتحدي. تلك الأرض التي شهدت الخذلان من قبل العديد، من سلطة أوسلو التي غرست رأسها في الرمال إلى المجتمع الدولي الذي تسابق في إدانة حماس دون النظر إلى الصورة الأكبر.
على صعيد آخر، اجتاحت الكوارث الطبيعية أجزاءً من الشرق الأوسط بشكل لم يسبق له مثيل. زلازل في سوريا وتركيا، فيضانات في ليبيا، وهزات أرضية في المغرب، كلها تركت خلفها دماراً هائلاً وأرواحاً غالية فُقدت. في هذه اللحظات الحرجة، يتجلى الإنسانية في أسمى معانيها، حيث يتحد الناس في مواجهة الألم والخسارة.
في السودان، شهد العام اندلاع صراعات داخلية، تحولت مياه الأخوة إلى دماء العداوة. النزاعات السياسية والمصالح المتضاربة أدت إلى تفتيت النسيج الاجتماعي، وضياع الأحلام في مهب الريح.
لكن، في وسط هذه الأحداث المؤلمة، يبرز الصمود الأسطوري لأهل غزة كنبراس يُضيء في الظلام. هناك، حيث الدمار والقتل، يستمر الأمل والحياة. يقول الشاعر ابو البقاء الرندي:
“لكل شيء إذا ما تم نقصان ** فلا يغر بطيب العيش إنسان”
غزة، التي تحولت إلى رمز للمقاومة والصمود، تستمد قوتها من إرادة أهلها وتضحياتهم. تلك الأرض التي أصبحت كلمة السر للحرية والكرامة، تذكر العالم بأن الأمل لا يموت، وأن النضال من أجل الحق والعدالة لا يتوقف.
وفي خضم هذه التحديات، نتذكر دائماً أن الإنسانية في أعمق أزماتها تجد طريقها نحو النور والأمل. ففي كل قصة مأساوية، هناك بذرة أمل تنتظر أن تنمو وتزهر.
يُعتبر الخذلان العالمي لأهل غزة واحداً من أبرز ملامح الصراعات الدولية. بينما يكافح أهل غزة من أجل البقاء والكرامة، يبدو أن العالم يدير ظهره لهم، متجاهلاً معاناتهم ونضالهم. هذا الخذلان ليس فقط مؤلمًا بل يُظهر عمق الفجوة بين الأقوال والأفعال في المجتمع الدولي.
يتجسد هذا الإهمال في تردد المنظمات الدولية والدول الكبرى في اتخاذ مواقف حازمة تجاه الظلم الذي يعاني منه أهل غزة. النداءات المتكررة لوقف العنف والحصار تصطدم دوماً بحائط الواقع السياسي، حيث تتلاشى هذه الدعوات في زحام الأجندات السياسية والمصالح الاستراتيجية.
في هذا السياق، يُذكرنا بيت من الشعر الروسي للشاعر الكبير ألكسندر بوشكين بمرارة هذا الواقع:
“تحملت العذاب بصمت، ودموعي جفت في عيوني، وقلبي صار حجراً في صدري”
هذه الكلمات تصور الألم العميق والصبر الشجاع الذي يتحلى به أهل غزة وسط هذا الخذلان. يظلون شامخين كأشجار الزيتون التي تتحدى الرياح والعواصف، محتفظين بكبريائهم وأملهم في الحرية والعدالة، رغم الألم والمعاناة.
وفي ختام كل هذه الأحداث، تبقى غزة شاهدة على قوة الإنسان في مواجهة الظلم، وعلى أن الأمل لا يزال حياً، حتى في أشد الظروف قسوة.
مهرجان بني صخر البادية الوسطى 2023 كاملاً
بإسمي أنا الدكتور فراس حماد الجحاوشة أتقدم بجزيل الشكر و الامتنان لكل من شاركنا فرحتنا و أشكر أبناء قبيلة بني صخر الأشاوس فردا فردا ،من حضر منهم وًمن لم يتكمن من الحضور.
انعكاسات عالمية لصراع محلي
“ما يجري في غزة على مدار شهرين وأسبوع يعكس حدثًا عالميًا. العنف الشديد، التدمير، الحصار، الإهانة، الجوع، والانتهاكات التي تتخطى حدود الإنسانية، هي أحداث تتكرر في مختلف أرجاء العالم. يبرز الدعم الغربي الشديد لإسرائيل والانحياز الصارخ لنظام يجمع بين الاستعمار الاستيطاني، الفصل العنصري، والتوجه نحو الإبادة. هذه الأحداث تخلق واقعًا وإمكانيات جديدة؛ واقعًا مؤلمًا وإجراميًا يجعل الحاضر لا يطاق، وإمكانيات تؤثر على مستقبلنا بشكل كبير.
إيمانويل وولرشتاين يصف هذا الوضع قائلاً إن ‘ما نقوم به في العالم، نقوم به لأنفسنا’، في إشارة إلى عدم القدرة على الفصل بين الأعمال التدميرية الموجهة خارجيًا والأضرار الداخلية التي تحدث للنفس والمجتمع. إذا كانت الاستباحة والإبادة هي ما يحدث في العالم، فهذا يعني أنها تحدث في كل مكان، ليس فقط للآخرين بل لنا أيضًا. يشمل هذا التأثير البيئة أيضًا، حيث تؤكد غريتا ثونبرغ، الناشطة البيئية، على غياب العدالة البيئية في الأراضي المحتلة.
ما يحدث في غزة هو انعكاس للترابط العالمي المتزايد في العصر الحديث، عبر الإعلام وتكنولوجيا الاتصال والتداخل الثقافي والاقتصادي. هذا التداخل هو هيكلي ولا رجعة فيه، ومحاولة عكسه تتطلب عنفًا شديدًا يمزق النسيج العالمي، ويعيد تشكيل العالم وفقًا للانقسامات السياسية والثقافية والدينية القديمة.
الوضع الحالي يشير إلى أن هذا المستحيل قد يصبح واقعًا. العنف الشديد الذي نشهده في غزة، والعنف الخطابي والرقابي في الغرب، يهدف إلى إعادة إقامة الحواجز ضد التفاعل العالمي. في الوقت نفسه، تسعى الحكومات الغربية للمشاركة في الحرب ضد غزة ورفض وقف إطلاق النار، دون توقع رد فعل. هذا يبدو مستحيلاً أيضًا. ويبقى العنف ليس الخيار الأمثل لتحقيق هذا المستحيل، على الأقل في المجتمعات الغربية.
ما يحدث في غزة هو جزء من قضية عالمية، حيث أن فلسطين أصبحت قضية عالمية بسبب الدعم الأمريكي والغربي لإسرائيل. هذا الدعم جعل من الصراع في فلسطين موضوعاً يؤثر مباشرة على مليارات الأشخاص وبشكل غير مباشر على العالم بأسره. من الصعب المبالغة في أهمية ما يحدث في غزة وفلسطين ككل في تحديد مستقبل العالم.
ما حدث في فلسطين منذ النكبة حتى اليوم يبدو غير واقعي؛ سلسلة مستمرة من المعاناة الشديدة. من المستحيل تخيل أن تعرية وإذلال الفلسطينيين أمام الكاميرات وعرض ذلك كأمر عادي في إسرائيل ووسائل الإعلام الغربية، دون الإشارة إلى أن هذه الأفعال كانت من أول ما يحدث لليهود في معسكرات الاعتقال النازية.
إسرائيل، التي نشأت جزئيًا من المحرقة، وطورت حول تلك الإبادة مظلومية تاريخية، تحمل في طياتها بذور الإبادة نفسها، وهو ما نشهده يتكشف على مدى عقود. الأمر لا يتعلق فقط بإسرائيل، فحتى ألمانيا، التي كانت جزءًا من تاريخ إبادة اليهود، بدت مؤخرًا قريبة من ماضيها التوتاليتاري بعد أحداث “طوفان الأقصى”. يوجد اليوم نوع من العقيدة الرسمية حول إسرائيل يُراد فرضها على الجميع.
ليس فقط أن ما حدث في ألمانيا أثناء النازية يتكرر في فلسطين، ولكن ما يحدث في الماضي يتكرر في الحاضر أيضًا. الزمن يتقدم، لكن التاريخ لا يتغير. هذا يعكس التأثير المستمر للهولوكوست كحدث فريد لا يقارن بأي شيء آخر، وهو ما يجعله دائمًا أساسًا في التاريخ.
إذا نظرنا إلى أن الزمن تاريخي بطبيعته، يبدو مرور الوقت مقاسًا بالأشهر والسنوات شيئًا سطحيًا وغير حقيقي، والزمن التاريخي في الواقع لا يتغير. في سوريا، تحت حكم الأسد، شهدنا زمنًا من الركود والعنف. العنف الخطابي الذي يحدد فرادة المعاناة والعنف الفيزيائي الذي تحتكره إسرائيل هما سمتان مميزتان لهذا النوع من الحكم.
أحد الجوانب الأساسية لهذا الوضع هو غياب الوعد العام. لا يوجد وعد للفلسطينيين بمستقبل مختلف إذا استسلموا اليوم. مشكلتهم الأساسية هي وجودهم، ولذلك لا يكفي استسلامهم السياسي. وبالمثل، لا يوجد وعد للإسرائيليين بغير مزيد من القلق الوجودي. وفي سوريا، لا يوجد وعد عام من أي نوع، فقط استمرارية عائلية محمية أجنبيًا.
اليوم، يبدو العالم دون بديل، أي دون مستقبل. نعيش في زمن راكد، يزداد تصلبًا وتعصبًا بعد أحداث غزة. هذا ينذر فقط بمستقبل مليء بالانفجارات والعنف. عنف اليوم هو عنف إبادي يوجه نحو الأبدية، وإسرائيل كنموذج لهذا النوع من العنف، تعيد إلى الواجهة كل أشكال العنف المرتبطة بتاريخ الاستعمار والطبقات المميزة والمشاريع الفاشية المبنية على النقاء العرقي أو الديني. هذا العنف هو محلي وعالمي في آن واحد، يحدث في غزة وفي كل مكان من العالم.”
فلسطين .. أم القضايا
في كل حرب هنالك مآس وبشاعات وظلمات، ولكنها تنتج دائما آفاقا جديدة خاصة إذا كانت في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني، ومن أجمل تجليات الحرب أنك ترى الأردنيين يقاومون في كل مكان وبكل ما يستطيعون.
فجلالة الملك يبذل جهدا عظيما لا غبار عليه، ويقاتل سياسيا ودبلوماسيا لنصرة أهلنا في غزة، وشعبنا الأردني الأصيل ينتشر في كل بقاع الوطن نصرة لغزة وفلسطين دون كلل أو ملل.
والتضحيات الأردنية في نصرة القضية الفلسطينية مشرفة وكبيرة، ولطالما اختلطت الدماء الأردنية والفلسطينية على تراب أرض الحشد والرباط، منذ احتلالها عام 1948 رغم إمكانياته المتواضعة في ذلك الوقت، واستطاع الدفاع عن القدس ومعظم الضفة الغربية وحفظهما من الضياع.
وسجّل نشامى الجيش العربي أعظم الملاحم في القتال ضد المحتل، وحتى يومنا هذا حيث تمثل المملكة الهاشمية الرئة التي يتنفس منها إخواننا المرابطون ويقاومون غطرسة المحتل.
وحتى بعد هزيمة النكسة التي حذر الأردن الأشقاء العرب من دخولها لأنه علم أن ميزان القوى لم يكن ليسعف العرب، لكنه تحمل مسؤولياته العروبية والقومية والدينية والاخلاقية واحتضن مئات الآلاف ممن حاول الاحتلال إبادتهم وعاملهم كمواطنين لهم حقوقهم وعليهم واجباتهم.
وواصل الأردن نضاله ضد المحتل وسجل نصرا عظيما في معركة الكرامة الخالدة ومرغ أنف الصهاينة وجيشهم الذي كان يظن أنه لا يقهر.
والآن بعد قرابة 50 يوما على قصف غزة وحرق أرضها وناسها، لا يزال الغزيون ثابتون صامدون، ورغم كل آلامهم وأوجاعهم إلا أنهم يوجهون للأردن أجمل الرسائل، ويعبرون عن مدى فخرهم بإخوانهم الأردنيين ووقفتهم إلى جانبهم والمساعدات التي تصل باستمرار والتحركات الدبلوماسية والسياسية الجبارة.
وأيضا لا تزال المقاومة البطلة تقصف كل البقاع المحتلة، وتثكل العدو بخسائر جمة، وتوثقها بالصوت والصورة، فيما يواصل العدو فضح نفسه وهزائمه بنشر أفلام كرتونية هزيلة مثيرة للضحك والاستخفاف.
وكونوا على ثقة أن طول أمد الحرب يعني مزيدا من الهزائم للاحتلال، وأنه لا يملك سوى الاستقواء على الأطفال والنساء والشيوخ، وأن أقرب حلفائه قد بدأو بالتردد في دعمه، وهذا مؤشر على أن ما يواجهه الاحتلال من حلفائه الذين كشفوا تخبطه الاستخباراتي والعسكري يوجهون له رسائل توبيخية قاسية تحت الطاولة.
فهناك الملايين حول العالم يهتفون دفاعا عن غزة، وهناك الموقف الفرنسي تغير بشكل كبير، والمواقف المهمة في النرويج وإسبانيا، وكذلك الأمم المتحدة، وأيضا أمريكا التي بدأت تمتعض علنا من العشوائية والتخبط الذي تفعله إسرائيل.
وكونوا على يقين بأن النصر صبر ساعة فبينما نفاخر بشهدائنا الدنيا، يوجع الاحتلال كل قتيل، لأنهم بلا قضية وبلا عقيدة وبلا إيمان، كما يقوم شهداؤنا بتمهيد الطريق لنا ويرصفونه ويضعون أولى مشاعل التحرير على طريق التحرير لأم القضايا “القضية الفلسطينية العادلة”.
“نور في ظلام غزة: المستشفى الميداني الأردني يبث الأمل”
في قلب غزة، حيث يلف الدمار واليأس كل زاوية، يقف شعاع من الأمل: المستشفى الميداني الأردني. بعثة إنسانية تجسد أروع معاني التضامن والعطاء، حيث يعمل الكادر الطبي الأردني بلا كلل لتقديم الرعاية الطبية للمصابين والمرضى في أحلك الظروف.
التأثير على السكان المحليين:
المستشفى لم يكن مجرد مرفق طبي، بل بات رمزاً للإصرار والأمل لسكان غزة. تعكس قصص المرضى الذين تلقوا العلاج هناك، من الأطفال المصابين بجروح الحرب إلى الشيوخ الذين يعانون من أمراض مزمنة، صورة حية للتحدي والأمل.
التحديات والجهود:
رغم النقص في الموارد وصعوبة الظروف، يواصل الكادر الطبي الأردني عمله بروح عالية من الاحترافية والإنسانية. يروي الأطباء والممرضون قصصهم عن الليالي التي لا تنتهي وعن الجهود المبذولة لإنقاذ حياة في بيئة محفوفة بالمخاطر.
الدعم الدولي والتقدير:
لقد حظي المستشفى الميداني الأردني بتقدير دولي لدوره البارز في تقديم العون الإنساني. يُعد نموذجاً للتعاون الدولي في أصعب الظروف، ويعكس الروح الأردنية النبيلة في العطاء والتضحية.
الختام:
في ظل الظروف القاسية التي تعيشها غزة، يظل المستشفى الميداني الأردني ملاذاً للأمان والشفاء، يجسد أروع معاني الإنسانية والتكافل، ويُذكّر العالم بأن الأمل لا يزال حياً في أقسى الظروف.
تقدير موقف على إيقاع النبض الوطني (2)
في مقالي السابق تحدثت عن الموقف الرسمي المباشر لجلالة الملك والهاشميين وانخراطهم وتحملهم المسؤولية مباشرة في الدفاع عن غزة، كما يجب الإشارة إلى أن هذا الموقف ممتد إلى كل أجسام الدولة.
وكان أبرزها خطابات وخطوات وزير الخارجية الذي برز بقوة في هذه الأزمة، وآخرها أخذه الكلمة الختامية من وزير الخارجية الأميركي الذي حاول الترويج للرواية الإسرائيلية من عمّان، لكنَّ الدبلوماسية الأردنية كانت صارمة وذكية واستدركت ما حاول فعله وأسمعته الموقف العربي الموحد الرافض لخرافة دفاع إسرائيل عن نفسها.
وإلى جانب كل هذه المواقف السياسية، فبرأي الشخصي أن أهم ما يتميز به الأردن اليوم هو وحدة الموقف، فالشارع الأردني محتقن وغاضب والدولة محتقنة وغاضبة، ولكن في أعراف الدول لا يمكن التعبير عن الغضب أو التضامن بمثل ما يفعل الأفراد.
لكن هناك مؤشرات حادة على ذلك، فلا يوجد دولة تأمر عسكرها بارتداء علم دولة أخرى، كما فعل الأردن ووضع العلم الفلسطيني على صدور النشامى، وهي إشارة مبطنة إلى أن الأردن فوق تضامنه مع مطالبات شعبه فهو أيضا مستعد للدفاع عن فلسطين كما يدافع عن الأردن.
وهناك من يعتب على السلطات لأنها لم تسمح للمتظاهرين بالاقتراب من السفارات أو الوصول إلى الحدود مع الكيان، ولكن لو اقترب الناس الغاضبون من السفارات وتعرضوا لها بأي شكل، ففي هذه الحالة سينقلب الحق على أصحابه، وسيستغل المجتمع الدولي ذلك لإحراجنا وإدانتنا وإفقادنا قوتنا الدبلوماسية في التصدي للقضية الفلسطينية.
ولو استطاع الناس الشرفاء أبناء هذا الوطن الكبير الوصول إلى الحدود، فقد يتعرضون لأخطار جمة، فالمنطقة هناك مزروعة بالألغام وتطبق فيها قواعد الاشتباك، وقد يستغل العدو ذلك، ويقوم بجرنا إلى ما لا يحمد عقباه.
وعندها سنكون أمام خيارات صعبة، فلو لم يقم الجيش الأردني بالرد سيتهم بالتخلي عن أبنائه، ولو قام بالرد فستكون حربا لم نستعد لها، ولن نجني منها سوى المزيد من الدماء والخراب.
ونحن في هذه المرحلة لا نبحث عن إلا عن شيء واحد وهو إيقاف العدوان الهمجي النازي على إخواننا في غزة، ولا نريد أن نمنح الكيان أي فرصة لقلب الطاولة.
فهو بارع في نسج الحجج والبناء عليها، وعلينا أن نكون أكثر ذكاء منه، وألا نعطيه ما يبحث عنه، فصدقوني لا يوجد شيء يقتل الكيان الآن مثل قتل دعايته وهدمها على رأسه وفضحه أمام الرأي العالمي، وأول الغيث قطرة.
تقدير موقف على ايقاع النبض الوطني
لطالما أصيب الأردن بشظايا الحروب الإسرائيلية على قطاع غزة، فرغم مواقفه الواضحة من الصراع وانحيازه الواضح للقضية الفلسطينية، إلا أنه وفي كل حرب يُتهم بالتقصير وخذل الفلسطينيين ومحاباة الكيان.
وهذه التهم يطلقها عادة نوعان من الناس، الأول هو العروبي المشحون بالحمية والغيرة على فلسطين ولكنه يعاني من نقص المعرفة، والثاني هو المغرض الجاحد الحاقد على هذه البلاد، وفي كلا الحالتين سأبيّن خطأ هذه الاتهامات.
أولا لم يأل الأردن جهدا ومنذ اللحظة الأولى بالسعي لحماية الإخوة في قطاع غزة وبما لديه من وسائل متاحة وضمن قدراته المحدودة، وكانت أولى مواقفه المشرفة برفضه القاطع إدانة هجوم حماس، والإصرار على أن هجوم حماس لم يكن ليحدث لو لم تقم إسرائيل على مدار 75 عاما بمحاولات إبادة الفلسطينيين وقتلهم والتنكيل بهم وتهجيرهم وحصارهم واعتقالهم والتضييق عليهم وحرمانهم من كل حقوقهم في الحياة والكرامة والاستقلال.
ومنذ أولى لحظات قيام الكيان بحملته البشعة على المدنيين والأطفال والنساء والشيوخ والشباب، حزم جلالة الملك حقيبة سفره وانطلق كأول زعيم عربي في جولة إلى أوروبا وخاصة إلى الدول المتعصبة بدفاعها عن إسرائيل والداعمة لها بشكل مطلق، حاملا معه الملف الفلسطيني، وموظفا وزنه السياسي ليؤكد لهم أن كل ما يجري ليس من مسؤولية أحد سوى إسرائيل، وأنه لا يمكن السماح لإسرائيل بتجاوز القانون الدولي والإنساني وإعطائها ضوءا أخضر لقتل الأبرياء.
ثم قطع جلالة الملك جولته في أوروبا عائدا إلى الأردن لأن الرئيس الأمريكي كان يعتزم زيارة الأردن وعقد قمة في عمّان، لكن وخلال تلك الساعات ارتكبت إسرائيل مجزرة مستشفى المعمداني، وارتأى الأردن بعد أن حمّل المسؤولية لإسرائيل مباشرة، إلغاء هذه القمة، احتراما للدم الفلسطيني والوجع الذي أصابنا جميعا.
ولا بُد من الإشارة إلى أن الأردن كان قد استبق زيارة بايدن المزمعة إلى عمّان، وأعلن موقفا لا رجعة عنه، بأن أي محاولات لتهجير الفلسطينيين من غزة أو الضفة المحتلة من أراضيهم، ستكون إعلان حرب، وهذا ومن وجهة نظري قد ضرب المخطط الصهيوني في مقتل، وأربك المخططات العسكرية الإسرائيلية ضد قطاع غزة.
وعلينا أن ننتبه إلى مواقف لم نرها في أي مكان آخر، فقد استثمرت جلالة الملكة وزنها وتأثيرها الممتاز على النخب الغربية، وظهرت على شاشة CNN التي تتبنى البروباغندا الإسرائيلية، وفندت روايتهم في عقر دارهم، وقد تحرك ولي العهد وأدان إسرائيل ونفاق المجتمع الدولي بشكل علني وجريء، وهذا ما بدأنا نرى آثاره في تراجع وتيرة اللهجة الغربية الداعمة لإسرائيل.
وقد رأينا جميعا كيف أن دولة محدودة القدرات مثل الأردن أخذت على عاتقها ومنذ اللحظة الأولى قيادة المحور العربي في مواجهة الحرب الإسرائيلية المسعورة.
وكيف انتزعت قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة يدعو فورا لإلغاء الأمر الإسرائيلي بتهجير الفلسطينيين من الشمال للجنوب، ويرفض أي محاولات من الكيان لتهجير الفلسطينيين قسرا من أراضيهم، وضرورة حماية السكان المدنيين في غزة، والتأكيد مجددا على ضرورة التوصل إلى حل عادل ودائم للصراع الإسرائيلي الفلسطيني وأنه لا يمكن تحقيق ذلك إلا بالوسائل السلمية، استنادا إلى قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة ووفقا للقانون الدولي، وعلى أساس حل الدولتين.
الإرهاب الصهيوني يكشف نفسه أمام العالم
عندما شنت طائرات الاحتلال الإسرائيلي هجومها الغاشم والدنيء يوم أمس على مستشفى المعمداني في قطاع غزة، لم يشعر أي أردني أو عروبي شريف بالمفاجأة، فجميعنا نعرف الوجه الحقيقي لهذا الاحتلال الدنيء عديم الإنسانية، لكننا شعرنا بالغضب من عجزنا وعدم قدرتنا على حماية إخوتنا وأهلنا وأطفالنا في غزة الشرف والعروبة.
لقد قتل الاحتلال منذ 75 سنة أضعافا مضاعفة من المدنيين وهجرهم واقتلعهم من أرضهم ونكّل بهم واستباح حرماتهم، لكنه كان يفعل ذلك تحت جناح الظلام أو لم تكن هناك إثباتات تدينه بالدليل القاطع، وكان يمارس كذبه المعتاد وحججه الواهية السخفية.
هذا الكيان المفلس كشف عن وجهه للعالم اليوم، فجميعنا شهدنا كيف هزمته المقاومة ومرغت أنفه بالتراب، وأثار الغزيون حنقه وغضبه بصمودهم وثباتهم رغم أنه ألقى عليهم ما يعادل ربع قنبلة نووية، محاولا زعزعتهم وتفكيك ثباتهم ولكن هيهات هيهات.
وعلى الرغم من أن الاحتلال الزائل يواصل حملته المسعورة على المدنيين منذ اثني عشر يوما مستخدما أحدث أنواع الأسلحة وأكثرها فتكا على مرأى ومسمع من العالم، لكنه لم يحقق أي نجاح وكل يوم يثبت أنه يفشل أكثر.
هذا الكيان الغاشم يحاول أن يزيد التصعيد فبعد إخفاقه في إركاع غزة بهدم الأبراج والمربعات السكنية انتقل إلى قطع الماء والكهرباء والغذاء عنهم، وعندما أخفق كذلك، ذهب إلى مستشفياتهم وقام بواحدة من أبشع جرائم التاريخ الحديث.
أنا أرى أن المجتمع الغربي المنافق لم يعد باستطاعته أن ينافق أكثر أو أن يجاري هذا الكيان أكثر، فالفظاعات التي ارتكبها ويرتكبها الصهاينة بحق المدنيين العزل الأبرياء لم يعد يمكن التغاضي عنها، وهذه الصور وهذا الإجرام لا يمكن إخفاؤه أو التهرب منه بحجة ضرب المقاومة.
وإنني إذ احي الموقف الاردني الصارم عبر إلغاء عقد القمة الرباعية التي كانت مقررة في عمّان اليوم الأربعاء إنها ستعقد في الوقت الذي سيكون قرارها وقف الحرب ووقف هذه المجازر .
عاشت غزة حرة عربية أبية، والخزي والعار لإسرائيل المجرمة الغارقة بدماء العزل والأطفال والنساء.
أين الدول العربية من الدفاع العربي المشترك؟
دفعت الحرب العربية الأسرائيلية الأولى في عام 1948 العرب إلى العمل على حماية أمنهم واستقرارهم في مواجهة الخطر الأسرائيلي وأطماعه التوسعية على الأمن القومي العربي.
فقامت الدول العربية في 18 يونيو حزيران في عام 1950 ببلورة أسلوب جديد للتعاون عسكريا وسياسيا واقتصاديا، وتوافقت على معاهدة الدفاع العربي المشترك والتعاون الاقتصادي ووقعت عليها في العاصمة المصرية القاهرة.
وأنشأت المعاهدة منظمتين رئيسيتين للجامعة العربية: مجلس الدفاع المشترك، والمجلس الاقتصادي (الذي أعيد تسميته إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي في عام 1980).
ومن الجدير بالذكر بأنه يوجد في المعاهدة بند يلزم جميع الدول العربية في صد الاعتداء على أي دولة عربية وذلك بالوسائل العسكرية والاقتصادية، واعتبار أي اعتداء عسكري على أي دولة عربية بأنه اعتداء على جميع الدول الموقعة على المعاهدة، وعليها الالتزام بتسخير ما لديها من وسائل بما فيها الوسائل المسحلة لردع العدوان وإعادة الأمن والسلام إلى نصابهما.
ولكن مع كل أسف فلم يفعل هذا البند حتى يومنا هذا، لا في اجتياح إسرائيل للبنان في عام 1982 ولا في صد هجوم العراق على الكويت عام 1990 أو في قيادة الأوضاع سواء في ليبيا عام 2011 أو الدول العربية الأخرى التي شهدت أحداثا يندى لها الجبين.
ومن وجهة نظري فإننا اليوم أحوج ما نكون إلى توحيد النظام العربي والتوجه نحو إحياء الدفاع العربي المشترك لمواجهة التحديات والأخطار التي جاءت بمعظمها مستوردة من الخارج على بلادنا وجلبت علينا الدمار والخراب.
وبالأخص معضلة الاحتلال الإسرائيلي التي لم ينفع معها لا اتفاقات دولية ولا أممية ولا الأعراف ولا الأخلاق ولا الدبلوماسية ولا المواثيق، فلقد اعتادت على اختراقها بل ووسعت الاستيطان وقتلت أبناءنا ووصل فيها الحد إلى إعلان الحرب والإبادة الجماعية على قطاع غزة المحاصر.
لا يجب أن يبقى مجلس الدفاع المشترك مجمدا ولا يمتلك قوة حقيقية على أرض الواقع، خاصة مع تصاعد التهديد الرئيسي لنا وهو التهديد الإسرائيلي.
ويجب على دولنا العربية أن تسعى بشكل جدي لتشكل تحالفا عسكريا موحدا، فالمشكلة ليست
في بنود اتفاق الدفاع المشترك، لكن في ما يحاط به من غياب الإرادة السياسية العربية.
وعليها أن تقوم بعد ذلك بتوسيع دائرة الأمن الاستراتيجي من الإطار العربي إلى الأمن الجماعي الإقليمي، فأهل مكة أدرى بشعابها ولا يستطيع أحد أن يجلب لنا حقوقنا كما سنفعل نحن لأنفسنا.
فلقد أثبت لنا الاحتلال مرارا وتكرار أنه لا يفهم إلا لغة القوة والردع، وأنه يواصل استغلال السياسة والدبلوماسية لإطالة أمد الصراع والالتفاف على كل العهود والمواثيق ليخدم مصالحه ويقتل الفلسطينيين دون رادع أو أي حساب.
رسالتي للدول العربية أنه يكفي أن نقف متفرجين وعلينا أن نتوحد ليشاهد هذه الاحتلال عظمة أمتنا العربية التي لا يمكن له أن يقف أمامها أو أن يتحداها، وما من وقت أنسب من هذا الوقت، لتفعيل القوة العربية وإيقاف بطش هذه الاحتلال الغاشم ضد إخوتنا وأهلنا في قطاع غزة، قبل أن يفوت الآوان.
رسالة إلى المجتمع الدولي: المشكلة ليست بحماس بل بالاحتلال
مؤسف جدا ما يحدث حتى الان في قطاع غزة من القتل والتدمير بالصواريخ والقنابل الثقيلة والحرق بالفسفور الأبيض، وقريبا التهجير القسري كما تخطط دولة الاحتلال.
لقد كشفت هذه الحرب ادعاءات الغرب عن الحريات والديمقراطيات وحقوق الإنسان، وأوضحت لنا أن الغرب وعلى رأسه أمريكا لا ينظرون إلينا كبشر، فهم يدعمون إسرائيل علنا ودون خجل بالأسلحة والصواريخ والطائرات وحاملات الطائرات والمدمرات والبوارج، ليس لمهاجمة حماس بل لمهاجمة الأطفال والنساء والمدنيين، دون أدنى اكتراث.
ويقطعون الماء والغذاء والدواء والكهرباء عن مليوني إنسان، ويغلقون المعابر الإنسانية التي لا بديل عنها لإدخال المساعدات.
يستهدفون المستشفيات ويقطعون الطرق أليها ويهددون أرواح الطواقم الطبية بلا أي أستشعار للخوف من المجتمع الدولي أو من القوى الإقليمية،
والذي حصل مع المستشفى الميداني الاردني هو دليل ناصع على ما أسلفت
لا شيء اعتز فيه بحياتي كلها أكثر من اني كنت اخدم في ميادين الشرف طبيبا في الخدمات الطبية الملكية ضابطا في القوات المسلحة.
في غزة التي خدمت فيها اعرف تماما معنى حضورنا في تلك الميادين نداوي الجرحى ونسعف المنكوبين وننقذ الارواح.
واليوم.. وانا اسمع خبر اجلاء فريقنا الطبي والمستشفى الميداني الوحيد في غزة وقد انسحبوا مضطرين فإني اشعر بحرقة القلب وهذا الاختناق المالح في حلق زملائي متيقنا يقين المؤمن ان كل واحد فيهم كان سيعطي كل ما عنده من جهد وخبرة ومعرفة لانقاذ الارواح وتلك هي العقيدة التي نتعلمها في القوات المسلحة الاردنية، الجيش المصطفوي الهاشمي.
يدعي الاحتلال ومن خلفه أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وأغلب دول الغرب أن المشكلة تتعلق بحماس، وأن القضاء عليها سيعيد السلام إلى المنطقة وبعدها سنصبح في أمن وأمان.
لكنهم لا يفهمون أو لا يريدون أن يفهموا أن المشكلة بالاحتلال، وعدم التزامه بواجباته التي يفرضها عليه القانون والشرعيات والدولية، وأن طالما استمر الاحتلال بتوسيع مستوطناته والتعدي على حقوق الشعب الفلسطيني والاعتداء على المقدسات الإسلامية والمسيحية وممارسة سياسات الفصل العنصري والأبارتايد، لن تشهد المنطقة أي سلام.
فالشعب الفلسطيني يرى الاحتلال يكبر يوما بعد يوم وباستخدام القوة المفرطة والرصاص والاعتقالات وهدم البيوت، ويرى المجتمع الدولي يقف صامتا متفرجا، ويستمر بغض النظر عن انعدام العدالة وإهمال آليات الحل التي تم إقرارها والاتفاق عليها منذ عقود طويلة.
لا حل للقضية الفلسطينية إلا بإعطاء الحقوق لأهلها وإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، لها حدودها ومطاراتها وموانئها وجيشها وعاصمتها القدس الشريف، ومنح أبنائها المهجرين والمبعدين الذين اضطهدتهم إسرائيل حق العودة، وعدا ذلك لن يتوقف التوتر وسيتواصل انفجار الأوضاع، لأن هناك شعب حي يبحث عن حقوقه وحريته ويدافع عن وجوده وأرضه، ولن يتوقف عن المقاومة حتى آخر يوم في حياته.
غزة .. طوفان العزة
كحال كل الأردنيين، بدأت علاقتي مع القضية الفلسطينية مبكرا، منذ نعومة أظفاري، ففي كل بيت أردني توجد فلسطين.
وننشأ على الجدالات الساخنة بين الوالد والوالدة والإخوة والأقارب، يتجادلون على أنجع الوسائل لحماية فلسطين وعلى الحفاظ عليها وطرد الظلم والاحتلال الواقع عليها وعلينا جميعا.
يتحدثون بحرقة وغضب وحزن طويل، لكن وبين فينة وأخرى يطل الأمل على بيتنا وعلى كل عربي، فهذه قضية حية لا يمكن أن تموت، ولا يمكن أن يعفو عليها الزمن.
في عام 1989 كنت طفلا صغيرا في الصف الخامس الابتدائي، وكنت مفعما ولا أزال بحب فلسطين، خاصة أن الانتفاضة الاولى كانت منطلقة، وأحيت مشاعر الحماس والإيمان في كل الجماهير العربية.
في ذلك الوقت كانت لغتي العربية الفصيحة قوية، واختاروني في المدرسة لألقي قصيدة الشاعر العربي الكبير نزار قباني عن غزة العزة، التي قال فيها :
غزة..
علمونا بعض ما عندكم فنحن نسينا
علمونا بأن نكون رجالا
فلدينا الرجال صاروا عجينا
علمونا كيف الحجارة تغدو
بين أيدي الأطفال ماسا ثمينا
كيف تغدو دراجة الطفل لغما
وشريط الحرير يغدو كمينا
كيف مصاصة الحليب
إذا ما اعتقلوها تحولت سكينا
يا تلاميذ غزة
لا تبالوا بأذاعاتنا ولا تسمعونا
اضربوا.. اضربوا بكل قواكم
واحزموا أمركم ولا تسألونا
نحن أهل الحساب والجمع والطرح
فخوضوا حروبكم واتركونا
إننا الهاربون من خدمة الجيش
فهاتوا حبالكم واشنقونا
نحن موتى لا يملكون ضريحا ويتامى
لا يملكون عيونا قد لزمنا جحورنا
وطلبنا منكم أن تقاتلوا التنينا
قد صغرنا أمامكم ألف قرن
وكبرتم خلال شهر قرونا
يا تلاميذ غزة
لا تعودوا لكتاباتنا ولا تقرأونا
نحن آباؤكم فلا تشبهونا
نحن أصنامكم فلا تعبدونا
نتعاطى القات السياسي والقمع
ونبني مقابرا وسجونا
حررونا من عقدة الخوف فينا
واطردوا من رؤوسنا الافيونا
علمونا فن التشبث بالأرض
ولا تتركوا المسيح حزينا
من شقوق الأرض الخراب
طلعتم وزرعتم جراحنا نسرينا
هذه ثورة الدفاتر والحبر
فكونوا على الشفاه لحونا
أمطرونا بطولة وشموخا
إن هذا العصر اليهودي
وهم سوف ينهار
لو ملكنا اليقينا
يامجانين غزة
ألف أهلا بالمجانين
إن هم حررونا
إن عصر العقل السياسي
ولى من زمان
فعلمونا الجنونا
تلك القصيدة التي كأنها تصف حال اليوم.
عن هيبة غزة وعظمة رجالها وبأس أبنائها، عن مصاصة الحليب التي تغدو سكينا في وجه العدو الغاشم، وعن الإقدام على الموت في سبيل الله والذود عن الأوطان والأمة، عن التشبث بالأرض حتى يشعر الإنسان أنها جزء من جسده تعاونه في حربه على العدو، فتخفيه في جوفها كأنها أمه الحنون.
ما قام به أبناء غزة مثال متجدد يقتل كل شك تسرب إلى قلوبنا في يوم من الأيام، بأنه أصبحنا عاجزين عن مواجهة الاحتلال وتقدمه التكنولوجي والعسكري والشيكات التي تُمنح له على بياض من الغرب، لقد أثبت الغزيون لنا ورجال المقاومة أنهم على العهد ولا يحيدون عنه.
لقد قدّموا في الأيام الماضية أرواحهم وأطفالهم ودماءهم وأموالهم ومصالحهم وتجارتهم فداء للأرض، وسيقدمون المزيد، ورغم ذلك فلا تسمع منهم سوى الحمد والشكر والاحتساب، فهم يعرفون أن ثوابهم عند الله عظيم.
أعادني أهل غزة أكثر من ثلاثين عاما إلى الوراء، إلى طفولتي المفعمة بالأمل، بالتحرير وعودة الأوطان لأصحابها.
وعلى الرغم من الحصار والضنك والوجع الذي قبعوا تحته لعقدين، لكنهم أثخنوا الجراح في العدو، ولقنوه ومن خلفه العالم درسا ملهما لن تنساه كتب التاريخ، فما أشبه الأمس باليوم، تتغير الدنيا وتمر الأيام، ولا يزداد الاحتلال إلا ظلما وعدوانا، ولا يزداد شعب فلسطين سوى إصرار على المقاومة والصمود وتسطير ملاحم الشرف والفداء.
الأردن .. مملكة بين نهرين
يقع على حد الأردن الغربي كما يعرف الجميع نهر الأردن، ومصطلح الأردن أو Jordan يتألف من “جور” و”دان”، وهما الرافدان الشماليان لنهر الأردن، وبمرور الزمن أصبح اللفظ أوردان وأردن، وهو مصطلح يعني عند العرب، الشدّة والغلبة.
وقيل إن “الأردن” هو أحد أحفاد نوح عليه السلام، وأنه جاء أيضا في اللغة الهندية القديمة من اللفظ يوردن Yordon التي تعني النهر الخالد.
والأردن الدولة العربية المسلمة، والتي تقع في شمال شبه الجزيرة العربية وفي غرب آسيا، لها نهر آخر ينبع من حدها الشرقي ويمتد على كل ترابها، وهو نهر العشائر، كما أرى.
إن العشائر الأردنية دون أدنى شك تمثل الشريان الرئيسي للمجتمع الأردني حتى قبل تأسيس إمارة الشرق العربي، ومن ثم إمارة شرق الأردن وصولا إلى المملكة الأردنية الهاشمية.
وقد سكنت العشائر والقبائل العربية شرقي الأردن وارتحلت إليه في القرون الماضية، وهي ذات عمق وامتدادات في شبه الجزيرة العربية وفلسطين وسوريا والعراق، فالعشائر العربية هي المؤسسة الاجتماعية الأكبر عمرا في التاريخ البشري، ومنذ عرفها الإنسان عرف الأمان فبنى الأرض وأعمرها.
إن السؤال حول علاقة الدولة بالعشائر، يُطرح بمظلة المدنية والليبرالية غير البريئة، وإن كان القصد من تكراره الإشارة إلى تنافر نظامي العشيرة والدولة، فالإجابة على هذا السؤال الخاطئ، تشبه الإجابة على التشكيك بحقيقة شروق الشمس من الشرق، وغروبها من الغرب.
ومع هذا فإنه من غير الصعب علينا أن نسرد حقائق تاريخية بازغة كالشمس، فقد قطع قائد البلاد وعميدها جلالة الملك عبدالله الثاني الهاشمي العربي الأمين، قول كل خطيب، فهو الذي أكد مرارا على أهمية العشائر الأردنية باعتبارها ركيزة أساس في بناء المجتمع، ورديفا وسندا للمؤسسات الرسمية والأمنية في الحفاظ على أمن واستقرار البلاد والعباد.
ثم إن النظام العشائري الذي نشأ قبل نشوء الدولة الحديثة، كان نظاما اجتماعيا متكاملا يحكم ويسير العلاقات داخل العشيرة الواحدة نفسها، وبين العشائر كلها، فهو ليس نظاما مبتدعا أو خارج السياق، بل هو نظام أثبت كفاءته عبر التاريخ، ومرونته وقدرته على الاندماج الإيجابي مع مؤسسات الدولة، وأثبت في كل حادثة ومرحلة احترامه وانضواءه التام تحت الدستور والقوانين، بل وإلهامه الدولة الحديثة في بناء المؤسسات وتطويرها على أسس رفيعة متقدمة.
ومن المضحك المبكي، أن راكبي الأمواج، يربطون التحديث السياسي بالقفز عن العشيرة وتجاوزها، وكأنها لم تكن العمود الفقري لبناء الدولة الحديثة ولاعبا محوريا في سلمها الأهلي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
وإن قام البعض بالاستناد على تصرفات أو تجاوزات هنا وهناك، في محاولة منه ليلوي ذراع العشائر بها، فهي مجرد ممارسات فردية ضالة، لا ارتباط بينها وبين قيم العشائر الاردنية وأخلاقها الرفيعة.
إن محاولات استهداف مؤسسة العشيرة باسم المدنية، محاولات عوراء، تهدف إلى تفكيك بنى الدولة الأردنية، وضرب مكوناتها الأساسية، فكما يؤكد جلالة الملك أننا جميعا أبناء عشائر من كل المنابت والأصول، سواء كنا في البادية، أو في القرية، أو المدينة، أو المخيم، وهو ما يعني مصدر قوتنا ووحدتنا.
وأقول كما قلت أمس أمام أبناء بني صخر، وأمام ربعي وأهلي وأصدقائي والأردنيين النشامى جميعا بشتى أصولهم ومنابتهم، أننا اليوم نمثل جيل المئوية الجديدة، جيلا منفتحا على الآخر ويؤمن بالدولة، وأننا جيل مستنير قادر على أن يحمل الراية في زمانه ومكانه ويسلمها أيضا لمن هم بعده، جيلا بعد جيل حتى يرث الله الأرض وما عليها.
ونحن إذ نلتف حول الراية الهاشمية، الضاربة جذورها في صدورنا، ونحميها بدمائنا، فهذه إنما شيم أبناء العشائر التي ما بدلت ولا تحولت، كأنها نهر، تقوم عليه الحياة، ويُرفد به كل باحث عن الديمقراطية والمدنية.
أفكار “راس غليص” البائدة والأحزاب الأردنية
عند الحديث عن الديمقراطية، يحضرني دائما مشهد من المسلسل البدوي “راس غليص”، أتذكر ذلك المشهد الذي يخاطب فيه الشيخ المتمرد غليص، شيخين من العرب، هما أبو عواد وأبو ملوح، ويمتدح غليص الشيخين بوصفهما عقل العرب ولسانه وكبيرا القوم وعقيدا الخيل و”شيالين الحمولة”، ويطالبهما بالوقوف معه وإلى جانبه، باحثا عن مشورتهما ونصحهما وتوجيههما.
يختال الشيخان، ويشعران بالاعتزاز بعدما أفاض غليص عليهما أفخم مفردات التمديح والتحميد.
لكن يظهر صباب القهوة فلاح ويسأل الشيخ غليص متعجبا: طال عمرك! تشاورهم!
يجيب غليص: إي يا فلاح، هذول كبارنا ورجالنا، لزوم أشوارهم وأسمع منهم.. وأساوي إلي براسي.
يختصر هذا المشهد الكثير عن ديمقراطيتنا، ويلخص لنا كيف يتسابق المترشحون سعيا لإرضاء الناخبين بشتى الوسائل والطرق والوعود، وعند وصولهم الكرسي يختفون ويفعلون ما برؤوسهم كحالة غليص، لذا علينا الانتقال من التشخيص إلى العلاج.
يعد مصطلح الأحزاب السياسية بمفهومه الحالي ظاهرة حديثة، فهو لم يكتسب معناه الذي نعرفه اليوم حتى منتصف القرن التاسع عشر، وإن كان قد أطل برأسه في ديمقراطية أثينا.
ليس للحزب السياسي تعريف جامع ومتفق عليه بل تتعدد تعريفاته وتتباين، لكنني أفضل تعريف الحزب السياسي القائل بأنه مجموعٌ يسعى إلى تأطير وتمثيل الشرائح المجتمعية ضمن برامج تُمكّن في النهاية من الوصول إلى السلطة.
إن بناء الدولة الديمقراطية المدنية يحتاج روافع أساسية قوامها احترام حقوق الإنسان ودعم حقوق الفرد الأساسية والسياسية والثقافية والاقتصادية أيًا كان دينه أو معتقده، وضمان حريات الأفراد والمجموعات وتعددهم وتنوعهم، وبناء المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية القائمة على مراقبة بعضها والفصل بين سلطاتها دون تغول أو إخلال، وصولا إلى أحزاب تتداول السلطة سلميا دون احتكار أو إقصاء، وهنا مربط الفرس.
فقد أكد جلالة الملك عبدالله الثاني سواء في أوراقه النقاشية أو في مقالاته أو في خطاباته المباشرة لشعبه الأردني، على ضرورة تفعيل الحياة الحزبية، بهدف الوصول إلى الأردن الحديث الذي تملكه الأجيال الشابة وتقوده حكومات حزبية منتخبة، متجاوزين مخاوف الماضي.
لدينا في الأردن إرث وتراكمات سياسية وأمنية تجعلنا حتى هذه اللحظة سجناء في متاهات الماضي، لكنها من الماضي، ولّت وعفى عليها الزمان وأكل، واليوم يَضمنها رأسُ الدولة بنفسه، والقانونُ بنصه، فلم يعد لدينا مبرر للعزوف عن ممارسة حقوقنا السياسية وتفعيل الحياة الحزبية من جديد.
لقد بدأت الحياة الحزبية عند الأردنيين عام 1919 أي قبل تأسيس الإمارة عام 1921، من خلال انضمام العديد منهم لحزب الاستقلال السوري، الذي شكّل له لاحقا فرعا في الإمارة، وشارك أعضاءٌ منه في أول حكومة أردنية برئاسة رشيد طليع عام 1921.
وقبل الوصول إلى عام 1989 وانتهاء حقبة الأحكام العرفية واستئناف الحياة الحزبية، فإن البلاد قد اختبرت حياة سياسية فاعلة ونشاطا حزبيا قويا ولافتا، من ظهور حزب الشعب الأردني عام 1927 إلى المؤتمر الوطني الأول، وحزب اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني، وأحزاب التضامن والإخاء وعصبة الشباب المثقف، وظهور الإخوان المسلمين، والأحزاب الشيوعية والاشتراكية والقومية والبعثية.
وكان البحث عن الهوية الوطنية الأردنية العروبية، ومقاومة الاستعمار البريطاني، وقضايا الأمة في فلسطين وسوريا، على رأس الأولويات التي ناضلت لأجلها الأحزاب الأردنية.
ومن نافلة القول أن الأحزاب هي الحامية والبانية للديمقراطية في كل دول العالم، وأننا نعيش في دولة لا ينقصها شيء لتفعيل حياتها السياسية والحزبية، فقد ضمنت لنا الدولة ممثلة بجلالة الملك ودستورها وقانونها، التنشئة السياسية التوعوية، وتسهيل عمل الأحزاب، وتوفير البيئة التي تشجع العمل الحزبي والمشاركة فيه، والآن يأتي دورنا على الصعيدين النخبوي والشعبي.
فالأحزاب لا تبنى من الأعلى إلى الأسفل، لذا على النخب القديمة أن تنهي حالة التشرذم الحزبي بالتحالف والتآلف والاندماج، انطلاقا من إنهاء حالة احتكارها للأحزاب، وتطوير الديمقراطية الداخلية للأحزاب، وإعادة تأهيل نفسها تنظيميا وبرامجيا على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية، بما يُمكّن الحزب من التعبير عن هويته، وإفساح المجال لإنتاج قيادات تغييرية جديدة، تمتلك رؤية واضحة، وتقدر على مخاطبة الجماهير وتمثيل مصالحهم وطموحاتهم واتجاهاتهم، واستقطاب تلك الجماهير بعيدا عن الجهوية والقرابة والفزعة والمحسوبيات الفاسدة.
أما بالنسبة للناس غير الحزبيين، فأولا أسجل عتبي على كل من يعيش حالة العدمية والسخط والبؤس، ويحكم على مستقبلنا وتجربتنا الحزبية بالفشل حتى قبل أن نجربها!
فالاعتراض لأجل الاعتراض، يخدم كما قلت تلك الحالة النخبوية التي تسعى لتجميد الوضع القائم وإبقائه دون تغيير، خدمةً لمصالحها الضيقة الشخصية، فأي سكونٍ وصمت يعني البقاء مكاننا بل والتراجع إلى الوراء، ما أود قوله أن أي تجربة منظمة جادة تعني ضرب العشوائية بالصميم، والبدء بالسير على شعار “شلع قلع” العراقي، الذي يستفز ويخيف الوجوه التقليدية القديمة التي لا مصلحة لها بالإصلاح والتغيير.
إذا أردنا التغيير، فعلينا أن نشمر عن أذرعنا، وأن نتقدم للمنافسة وخوض الغمار السياسي، وطرح رؤيتنا وأولوياتنا وهمومنا، فلا يمكن أن نطلق حكما مسبقا دون امتلاكنا إرادة جادة وتجربة عملية وممارسة حقيقية.
أنا أعرف أن هناك مناخات سلبية عصفت بنا، وأن هناك حالة كبيرة من فقدان الثقة بالعملية السياسية، لكن هذا الإحباط لن يولد أفقا رحبا، فالانتخابات السابقة والتي قبلها لم تصل نسبة المشاركة فيها إلى ثلاثين في المئة، وهذا يعني أننا إن لم نجد من يمثلنا، فعلينا أن نمثل أنفسنا بأنفسنا كمواطنين فاعلين، وليس أن نقف متفرجين!
فالدورة المقبلة فيها 40% مقاعد مخصصة للحزبيين، والتي بعدها 50%، والتي بعدها 65%، إذًا فالقرار عندنا، إمّا أن نشكل أحزابا أو نصير حزبيين أو نشارك في الانتخابات على الأقل، وبعدها نحاكم تلك الأحزاب على أساس برامجي بحت.
فالحزب الذي يخفق ولا يفي أو يلتزم بوعوده وبرامجه، نعاقبه على صعيدين، كحزبيين بالانسحاب منه والانتقال إلى أحزاب أخرى أكثر فعالية، كما في كل أنحاء العالم، ونعاقبه كقاعدة جماهيرية بالانقلاب عليه وحرمانه من الأصوات في الدورة التالية، وهكذا تسقط منفعية “غليص” المرحلية، ويصبح بعدها في حالة عوز دائم ومطلق لقاعدته الجماهيرية، قبل الانتخابات وبعدها.
الجرائم الإلكترونية .. قراءة خارج النص
كما نعرف فقد أثار مشروع قانون الجرائم الإلكترونية جدلا حادا في بلادنا وأعتقد أنه قد نوقش في الأوساط الإعلامية والعامة والخاصة بكل تفاصيله، وناله من النقد وكذلك الدفاع عنه، ما لا يدع مجالا للإضافة على ذلك.
وعندما تابعنا تلك النقاشات حول المشروع، لاحظنا وجود هوةً كبيرة بين الحكومة والمُشرّع والمنتقد، وهو ما أريد أنه أضعه تحت عنوان “النضج المنقوص” الذي تعاني منه جميع الأطراف، من نص مشروع القانون إلى أسبابه الموجبة وموعد طرحه وعرضه على النواب وآلية دراسته داخل اللجنة القانونية في المجلس وصولا إلى التصويت عليه في الجلسة العمومية.
كلها مراحل شابتها اعتباطات بشكل أو بآخر، وكانت في العديد من مراحلها محكومة من قبل المُشرع أو المعترض على التشريع، إما للمزاجية أو العشوائية أو المصالح الفردية أوعدم الفهم الأصيل للتشريع، مع استثناءات قليلة.
هذا الأمر دق ناقوس المسؤولية عندي، ودفعني إلى أن سلط الضوء على مشروع القانون من منظور مختلف، فلست بصدد الدفاع عنه أو نقده، فما حدث قد حدث، بل أريد أن ألفت الانتباه إلى مسألة أكثر أهمية برأيي، وهي مجلس النواب.
فهذا المجلس الذي يناط به مناقشة ودراسة القوانين التي تحيلها الحكومة أو التي تخرج من تحت قبته، لم يكن على قدر المسؤولية التشريعية بشأن هذا المشروع، وما دار فيه من تلك الجدالات المصطفة خلف المشروع والمهاجمة له، كانت في أحسن أحوالها مليئة بالمغالطات المنطقية والعواطف والأحاديث منزوعة الدسم القانوني والتشريعي، وهذا ما يجب أن نتنبه له.
لنفترض جدلا وكما يقول المعترضون أن الحكومة أرسلت هذا المشروع لحماية نفسها، لكننا نعلم أن الحكومة ليس بيدها شيء سوى الاقتراح، وأن القرار الأصيل بيد ممثلي الشعب، أي مجلس النواب.
وبما أنه المشروع قد مر من هناك ولم يعجب الكثيريين، فهذا يعني أن الخارطة التمثيلية داخل المجلس مشوهة، وأنها سوف تزداد اضطرابا في السنوات القادمة، عندما تشكل الأحزاب نسبة 65% منه، إلا لو تدخلنا نحن الشعب في هذا الخارطة وانتخبناها على أسس الكفاءة والفعالية.
بوجهة نظري، أن المسؤولية التي كنا نلقي بها على عاتق الدولة، بدأت تنتقل إلينا، وأننا على بُعد خطوات من تولي زمام المسؤولية بشكل كبير، فالرؤية السياسية والتحديثية تقول لنا وبشكل واضح، أن اختياراتنا لممثلينا في مجلس النواب، تشكل عاملا ثقيلا ومباشرا في رسم شكل حياتنا اليومية، وأن القرارات التي تحكمنا، هي نتاج ما تضع أيدينا في الصندوق.
الكارثة في ليبيا .. الوجه الآخر
منذ عام 2011، عاشت ليبيا في قلب عاصفة من الصراعات المسلحة والحروب الأهلية التي مزّقت البلاد وأهلها، واتُكئ خلالها على التوظيف القبلي والمناطقي والجهوي لتغذية هذه النزاعات الدامية التي استمرت لسنوات.
ومع تصاعد حدة الصراع، انقسمت ليبيا إلى معسكرين متضادين، شرقي وغربي، ولم يعد يجمعهما شيء سوى لغة السلاح والدماء، حتى أفرج الله عليهم عام 2020، وتوصلا لتسويات سياسية وعسكرية مبدئية، خفتت بموجبها أصوات المدافع والصواريخ. adfadf
لكن الدماء التي سُفكت تحت الرايات السياسية والأطياف القبلية وإثارة النعرات بين المعسكرين الشرقي والغربي، ظلّت تطرح سؤالا حول قدرة أبناء البلد الواحد على التعافي الحقيقي منها.
فالحرب التي تنهيها جرة قلم في مؤتمر دولي، لا يُمكن حسب اعتقادنا أن تصلح الأوجاع والآلام والمآسي التي أكلت حيوات الناس وعقولهم على مدار عقد كامل من الزمان.
وما لبث الليبيون أن استشعروا ذلك الهدوء النسبي والاستراحة القصيرة من القتل والدمار، حتى واجهت مدينة درنة الواقعة في الشرق الليبي فيضانات جارفة تسببت في دمار هائل، لم تتمكن أي جهة حتى الآن من تقدير نتائجه الكارثية بدقة.
وهنا ظهرت صورة فاجأت العالم وصدمته، ذلك العالم المنافق الذي وقف صامتا لا يحرك ساكنا، لإنقاذ الليبيين، فهم غير مهمين في حسابات العالم السياسية الحالية، وليسوا مدرجين ضمن أولوياته التوظيفية، لكن ليست هذه المفاجأة.
فقد تعودنا على هذا العالم الذي يكيل بمكيالين، والنماذج في بلادنا في فلسطين وسوريا ولبنان والعراق وليبيا والسودان واليمن… صارخة لا يمكن إخفاؤها.
المفاجأة التي أتحدث عنها، كانت ما فعله الليبيون أنفسهم، فقد هبوا هبة رجل واحد، قافزين عن كل الاعتبارات السياسية، وكل الصراعات التي فُرضت عليهم، متناسين أكذوبة المعسكرين المتصدعين، واندفع أبناء الغرب بأموالهم وأرواحهم تجاه الشرق، منقبين عن الناجين بأيديهم، ومقتسمين غذاءهم وماءهم وملبسهم مع أبناء جلدتهم المنكوبين.
ضرب الليبيون مثالا رائعا في الوحدة وحب الأوطان، في لحظةٍ فاجأت العالم بروابط الدم والأخوة التي تجمع أبناء ليبيا على الرغم من النزاعات السابقة، وفي هذا اللحظة ظهر معنى الأوطان بوضوح.
ظهرت القوة التي تمكن الناس من تجاوز الصراعات والانقسامات والوقوف معا في وجه المصاعب، إنها القوة التي تجعل الأفراد يتحدون للمساهمة في إعادة بناء وطنهم وإسناد مجتمعهم في أوقات الضيق.
كان للكارثة وجهٌ آخر، وجهُ الشعور العميق بالانتماء والالتزام نحو الوطن والولاء له، والمشاعر تجاه الأرض والثقافة والتاريخ والهوية الوطنية.
ما شاهدناه جميعا يفتح نافذة أمل كبيرة على المستقبل، ويُمثل خطوة مهمة نحو السلام والاستقرار في ليبيا، فهذه الروح والبناء عليها وتعزيز التفاهم المتبادل بين الليبيين سيكون أمرا حاسما لبناء مستقبل أفضل للبلاد.
في النهاية، يجب أن نتذكر دائما أننا جميعا نحمل نفس الهموم وننتمي لذات الأرض والوطن، وعندما نتحد معا في مواجهة التحديات، يمكننا تحقيق المستحيل، وتجاوز المؤامرات والنزاعات والصراعات، فالأنموذج الليبي يؤكد لنا في كل مكان، أن دواء مشكلاتنا العربية يكمن بأيدينا فقط، وأنه ليس لنا سوى بعضنا، وأن الارتهان للخارج أو السماح له بالتغلغل بيننا، سيظل الداء الذي لا دواء له.
هل علينا الخوف من القانون أم نحترمه؟
يمكن لنا أن نسجل المشهد التالي كل يوم في أي شارع في أي مدينة أردنية أمام أي إشارات مرور:
الوقت عادة يكون ليلا حيث لا أزمة سير حانقة، بل تقاطع طريق يكاد يكون خاليا، وسائق سيارة يتأكد بالتفاتتين أو ثلاث أن لا دورية شرطة في الجوار ولا سيارات في أي جهة ولا كاميرا منصوبة على الإشارة فيقرر متوترا أن يقطعها حمراء.
المشهد ذاته يمكن تسجيله في أي شارع آخر في أي مدينة أوروبية بذات الظروف، لكن السائق هناك ينتظر براحة بال الضوء الأخضر من الإشارة ليتحرك بهدوء في طريقه.
الفرق بين السائقين، هو فرق بين حالتين من الوعي: حالة الخوف من القانون عند السائق الأول، وحالة احترام كامل للقانون عند السائق الثاني.
القصة في هذا الوعي أمام مفهوم القانون لا تقتصر على قوانين السير، بل هي أعمق من ذلك وتتعلق برؤية الناس للقوانين، هل هي رادع مليء بالعقوبات أم قواعد تنظيمية مراعاتها تعني مجتمعا منظما؟.
في الأردن، الذي يدخل مئويته الثانية كدولة استطاعت تجاوز كل التحديات والاستهدافات، وقامت على أكتاف رجال مخلصين ولدتهم أمهاتٌ أصيلات بحجم الوطن، بذلوا أنفسهم وكلَّ غالٍ ونفيس، لا طمعاً بمال ولا رغبةً بجاهٍ ولا خوفاً من أحد، بل إعلاءً لراية هذا البلد الخيّر وإعماراً لأرضه وتوحيداً لأهله، نقرأ في تفاصيل حياتنا اليومية الحالية نوعا من الاستهتار بالقوانين، التي تم وضعها لتنظيم حياتنا، فصارت البطولات الفردية في المجالس متعلقة بمن يتحايل على القانون أو يكسره بدون أن يتم ضبطه.
أقول ما أقول، لأنني أستشعر المسؤولية الكبيرة تجاه شأنٍ قد يراه البعض تفصيلة غير مهمة أو هامشية، لكن الحقيقة أن الأوطان كل الأوطان لا تبنى إلا بالوعي، والوعي هنا يعني الإدراك الكامل والشامل للحقوق والواجبات والتي لا ينظم العلاقات فيها إلا منظومة واضحة من التشريعات التفق عليها، وأتحدث هنا عن القانون.
أيها الأردنيون يا أهلنا وناسنا، إن القانون ليس سيفاً مسلطاً على رقابنا، وليس حملا ثقيلا على ظهورنا، وليس الهدف من الامتثال له أو محاولة التحايل عليه تجنب عقوبة أو غرامة!، بل إنه أداة تمكننا من ضبط شؤوننا وترتيبتها، وينبغي أن يكون الالتزام به طواعية ونابع عن رغبة وانتماء.
أما الإخوة المسؤولين وخصوصا المشرعين ورجال تطبيق القانون، فهذه دعوة لكم أيضا أينما كان موقعكم ووظيفتكم، فليس الهدف من تشريع القانون أو تنفيذه تعجيز الناس ولا ترويعهم، بل الهدف الأسمى منه هو تنظيم وتنسيق شؤوننا المجتمعية بما يسمح بتطوير هذا المجتمع الأصيل الطيّب الكبير، وطبعا لردع من تسول له نفسه المساس بهذا البلد وأهله.
أنا أرى أنه صار لزاماً علينا أن نراجع علاقتنا التعاقدية كمواطنين مع قوانينا ودستورنا، وأن نعيد رفع الوعي بين الناس والمسؤولين بما يؤكد على أن التشريع وإقرار القوانين والالتزام بها، كلها مراحل تهدف للحفاظ على ترابطنا ولحمتنا وقوتنا وليس لعقابنا أو زجرنا.
بالتالي علينا أن نفتح حواراً صادقاً مع أنفسنا، وأن نؤكد أنه قبل الانخراط بخوض معارك السياسة والأحزاب وغيرها بلا طائل سوى الجدل، يجب أن تتوفر الإرادة الصادقة وأن الالتزام بالقوانين بدافع ذاتي هو الأساس الأهم ومفتاح بناء الدولة.
ربما، تلك أهم أهداف على أي حزب جديد أن يؤطرها في أدبياته، وإلا انتهى الحزب إلى تقاطع طرق فوضوي بلا إشارات مرور تنظمه.
التجسس… فعل قبيح أسقطه الشعب الأردني!
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} صدق الله العظيم.
في الآية الثانية عشرة التي وردت في سورة الحجرات ينهانا الله عز وجل، عن إساءة الظن، والتجسس، والاستغابة.
ومن ثم يشبه لنا كراهة تلك الأعمال برجل يأكل لحم أخيه الميت، وهو أمر لا يمكن تصديق بشاعته، وتأويل هذا عند المفسرين، أن الله يأمرنا باجتناب الإساءة للناس كما نكره ونجتنب أكل لحم الأموات.
كانت هذه الآية ومقصدها أول ما خطر لي، عندما وردني ما تداولته نفوسٌ مريضة لاعتداء على خصوصية زوجين تربصت بهما عيون وحشية مفترسة، تبيع نفسها وضمائرها للمال الملوث.
وإن محاولة البعض الإشارة إلى أن “المثالية” ضرورة يجب أن يتحلى بها الفرد المسؤول أو الشيخ أو المشهور…إلخ، فهو محاولة مكشوفة للطعن والإساءة، فالعصمة لله أولا وأخيرا، كما أن الطبيعة البشرية تمتاز بالمشتركات الكثيرة.
فالحبيب المصطفى، عليه الصلاة والسلام، والذي جمع الله له من بداية نشأته خير ما في جميع طبقات الناس من مميزات، وجنبه ما فيهم من الشر والعيوب، كان يعامل أزواجه، رضي الله عنهن، بما يضفي معالم الرحمة والإنسانية والشراكة والألفة معهن، بل ولم يمنع ذلك من وقوع بعض المشكلات العابرة بين أزواجه، وهي مشكلات تؤكد بشرية النبي، والتي تنطلق من واقعية الدين الإسلامي، وتعامله مع النفس البشرية، وما تحمله من صفات خلقية تزيد وتنقص.
لا أخفيكم، أنني ابتداءً شعرت بالرعب، فلقد أرعبني أننا نعيش اليوم في عالم، انحطت عند فئة من قاطنيه، القيم والأخلاق والمبادئ، إلى درجة أوصلتهم إلى ارتكاب جرم التجسس واختراق خصوصية الناس!
ألست أنا إنسانا؟ ألا عائلة لدي؟ ألا أقارب لدي؟ وهكذا كل من يقرأ ولا يقرأ هذه الكلمات، كلنا بشر وكلنا لدينا حيواتنا الخاصة بنا، التي نرفض قطعا وتماما أن يخترقها أي متطفل من قريب أو بعيد.
تخيلت أن ما حدث يمكن أن يصيب أي أحد، وفي أي مكان، حتى داخل بيته، أو في نُزل ذهب إليه رفقة عائلته، أو في محلات بيع الملابس، أو في الأندية، وغير ذلك مما يعد ولا يحصى.
لكنني ما لبثت حتى شعرت بالآمان، وشعرت بالهدوء، وعادت الثقة إلي من جديد، عندما رأيت موقف الشعب الأردني الشريف، الذي ساءه ما وقع، ولفظَ كل خبيث وخبيثة تداولوا اعتداءً صريحا على العائلة الأردنية.
بل ولاحظنا كيف تجهم هذا الشعب، ورفض حتى الحديث في الأمر، فمن منا يقبل أن يخوض أحدٌ بخصوصياته التي تلصص عليها أناس وضيعون، تحركوا في الخفاء، وسرقوا لحظات عفوية يعيشها وعاشها كل الأزواج على هذه الأرض؟
لقد أثبت هذا الشعب مجددا أنه مجبول بالأخلاق ومفعم بالأصالة، فقد عمد إلى إماتة الباطل بالسكوت عنه، وتجاهل وسائل إعلامية انحطت سياساتها “الفضلى” إلى فعل ما تفعله الصحف الصفراء سيئة الذكر عديمة الموثوقية، بحثا عن المشاهدات أو خدمة لأهداف معينة.
إن الحياة الخاصة قبل أن تكون محمية بالقوانين والأنظمة، فالأصل أن يتعرض المعتدي عليها، للمساءلة المجتمعية والقيمية والأخلاقية والدينية، لكن من فقد مبادئه وباع أخلاقه ولم يعرف يوما معنى الشرف، لن تردعه القوانين الحديثة، عن فعلته، أو عن التداول والتشهير والإساءة، فهذه فئات ضالة، باعت كل شيء عندها، بثمن بخس، وشاهت وجوهها في الدنيا عندما عرّتهم أفعالهم القبيحة، وويل لهم يوم يقفون بين يدي الله، يوم يجزون عما فعلوا كل الجزاء.
انفصام في الشخصية ام نفاق الكتروني
وأنا أتأمل وسائل التواصل الاجتماعي، تذكرت الفنان السوري الرائع ياسر العظمة، الذي بذل ولا يزال يبذل جهدا عظيما وملهما للجماهير، فهو الذي اشتهر أيما شهرة بمسلسل مرايا، حيث أثرى هذا المسلسل الكوميدي بمضمون سياسي واجتماعي كبير، محاولا معالجة الكثير من مشاكلنا المستعصية.
في إحدى حلقات هذا المسلسل، يُقدم لنا شخصية بائع زيت يدعى أبو فارس، الذي أمضى سنوات طويلة جدا في بيع الناس زيتا يدّعي أنه أصلي وخالٍ من أي إضافات، و لكنه زيت مغشوش ومخلوط بزيت نباتي، لأن أبو فارس يبحث عن تحصيل المال والثروة والمنفعة الشخصية حتى لو على حساب الناس وصحتهم.
وهذا يشبه كثيرا ما نشاهده يوميا على مواقع التواصل الاجتماعي، فتكاد تعتقد أن جميع البشر سعداء وأنقياء ومؤمنين ويملأ الرفاه حياتهم، فالكثيرون يدّعون ما ليس فيهم، فتجد من يكتب تعليقا مسيئا ويطعن جزافا بالعرض والشرف، وتتفاجأ عندما تدخل إلى صفحته الشخصية بأنها تمتلئ بالأدعية الدينية والأذكار وكلام الشيوخ عن الإحسان والأخلاق وطمأنينة المتقين، وتحذيرهم من الكذب وعظم ذنب الإساءة والاستطالة في أعراض الناس.
وتجد من يكيل المديح والثناء لشخص ما، في حين أنه يحمل في نفسه عليه كل مشاعر السخط والكراهية، أو تجد مدعيا للمثالية يحاول تجريم شخصية عامة وانتقادها ووسمها بأبشع الصفات بسبب منشور أو تسريب ما، في حين أنه يمارس نفس الأفعال ولكن بعيدا عن وسائل التواصل الاجتماعي. والأمثلة كثيرة جدا…
لقد أصبح الزيف يملأ حياتنا الإلكترونية بشكل لا يصدق، وصار النفاق وجها أساسيا لهذه المنصات، سواء في المنشورات أو التعليقات أو مشاركة الصور والفيديوهات، وصرنا نحاكم الناس دون تحقق، وكأننا نسينا قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ).
وبالعودة إلى شخصية أبو فارس، ولأنه كان محتالا ممتازا ويتقن دوره في المراوغة والمكر، ويحمل مسبحته ويلهج لسانه دوما بذكر الله والتوكل عليه، فقد اعتاد الناس الإقبال عليه بشراهة والحلفان بنزاهة هذا الرجل واعتقادهم أنه يبيع أفضل زيت على الإطلاق…
ثم تمر الأيام ويبدأ المرض يحل في عائلة أبو فارس، فيقرر التوبة والعودة لرشده وأن لا يغش الناس، ويبدأ ببيعهم زيتا صافيا أصليا بعيدا عن الاحتيال.
لكن العجيب المؤلم أن الناس يصابون بالهلع ويهرعون إلى أبو فارس ويتهمونه بالغش والاحتيال عليهم، رغم أنها كانت المرة الوحيدة التي لم يغشهم فيها… فيعود أبو فارس إلى ما كان عليه…
يشبه أبو فارس المتصنعيين على السوشال ميديا… أما زبائنه فيشبهون أولائك الذين يغذون النفاق بالتودد المصطنع والتصفيق والمحبة والدعم والإعجاب والتعليق المبالغ فيه..
جردة حساب .. الأردن القابض على الجمر السوري
لا شك أن العلاقات بين عمّان ودمشق شابها الكثير من التأرجح والاضطراب منذ قيام الدولة الأردنية عام 1921.
لكن في كل مفاصل تلك العلاقات كان الأردن يثبت على الدوام أنه جدير بالثقة وذو عمق عربي أصيل، ومن آنف الذكر الإشارة للبادية الأردنية التي تشكلت عام 1931 ودورها المحوري في إعادة السلام لحدود البلدين بعد معضلة الغزوات بين القبائل الأردنية والسورية، بل وتوقيع الملك الراحل الحسين بن طلال وحافظ الأسد بروتوكول الوحدة في عام 1976، الذي أقام تكاملا غير مسبوق، وألغيت بموجبه الجوزات بين البلدين.
وصل التشكيك السوري في الأردن حدا دفع تلك الدولة الشقيقة لحشد دبابتها وعسكرها على حدودنا في غير مرة، ولكن عمّان كانت تؤكد مرة تلو الأخرى أن يدها شجاعة لا تعرف الغدر وأنها لا تمتد إلا لتصافح.
وقد قطع الحسين بقلبه العروبي كل الحجج والأعذار في عام 1985 عندما زار سوريا، مُنهيا قطيعة حكمت علاقات البلدين لعدة سنوات، ومن ثم قام بخطوته التاريخية الشهيرة في عام 1987 عندما عقد اجتماعا سريا في الجفر بين الرئيسين حافظ الأسد وصدام حسين.
وحاول الملك الراحل الجمع بين الإخوة العرب، ومن العجيب ذكره أن ذلك الملك كان ولساعات طويلة يتولى بنفسه مهمة إدخال الطعام والشراب للرئيسين، في محاولة دؤوبة وجادة لتوفير الظروف المواتية للتوفيق بين العراق وسوريا.
مرت السنوات، وظل الأردن يبني الروابط والصلات مع سوريا، حتى وقعت الحرب في سوريا عام 2011.
وكلنا نعرف التعقيدات الشديدة التي سيطرت على كل المنطقة، والتي دفعت الأردن عام 2015 مضطرا إلى إغلاق معبر نصيب جابر، رغم أنه قرار شكل ضغطا كبيرا على اقتصاد المملكة التي سجل التبادل التجاري بينها وبين جارتها الشمالية عام 2010 نحو 615 مليون دولار.
كما نذكر جميعا تفجير الرقبان الإرهابي عام 2016 والذي كلفنا سبعة شهداء من جنودنا.
ورغم كل ذلك، استمر الأردن على نهجه، وفي عام 2018 تحرك وفد اقتصادي تجاري إلى دمشق، ومن ثم أعيد افتتاح الحدود جزئيا من 2018 وحتى أوائل 2020، وكانت كل مرات التعثر لأسباب فرضت نفسها على الحدود، سواء من تفشي وباء كورونا أو معارك مسلحة كانت تجري في محافظة درعا السورية.
وفي عام 2021، نتذكر المكالمة التي تلقاها جلالة الملك عبدالله الثاني من الرئيس السوري بشار الأسد، وبعدها تبادل الزيارات الثنائية بين الوزراء والمسؤولين السياسين والاقتصاديين والتجاريين والأمنيين، والتحرك الأردني المتقدم لإعادة سوريا للحضن العربي مجددا.
لأننا نؤمن أن استمرار العنف لم يؤد إلا إلى توالد المزيد من الخراب والدمار، فارتأى الأردن أن يقود الجهود السياسية والدبلوماسية صونا للمصلحة السورية وشعبها والأردنية والإقليمية والعالمية.
فتحت عمّان يديها لسوريا، ولنقلها بصراحة فقد قام الأردن بضغط معاكس وهادئ بدون ضجيج على قانون قيصر الأمريكي، ووُقع في عاصمتنا في عام 2021 بين الأردن ولبنان وسوريا ومصر، اتفاق على توصيل الغاز الطبيعي المصري إلى لبنان عن طريق سوريا باستخدام خط الأنابيب العربي.
وكانت المعادلة كالتالي، الجميع رابح فلبنان الغارق في الأزمات، سيحصل على طاقة تخفف من ظلمته، ومصر ستصدر الغاز، والأردن سيصدر الكهرباء، أما سوريا فسوف تلتف على عزلتها الدولية، وتتاح لها فرصة إعادة الاندماج بالاقتصاد العربي ومنه إلى العالمي، وتتاح لها أيضا فرصة للتحلل من فكي حلفائها الرئيسيين.
أما الثمن المطلوب من سوريا، فقد كان ولا يزال، أن تعود وتتصرف فقط كدولة حقيقية.
ورغم أن الأردن حاول أن يلعب دوراً سياسياً إيجابياً تجاه أزمة جارته الشمالية، لكن الإحسان لم يقابل بالإحسان، فنغمة التشكيك مستمرة، بل الأسوأ، أن حدودنا معها والتي يبلغ طولها 375 كلم، تتعرض لضغط أمني كبير وخطير ومستمر.
فالملاحظ أن الحدود تحولت لمصدر تهديد استراتيجي للأمن القومي الوطني، فتهريب المخدرات تحول من مستوى الأفراد والعصابات الصغيرة المفككة، إلى مستوى شبكات إقليمية بدعم وتغطية رسمي، وأقول رسمي لأن الشمس لا تُغطى بغربال.
ويبدو أن هذه التجارة الآثمة أصبحت شريان حياة لجارتنا الشمالية ومصدرا أساسيا للعملة الصعبة، والأخطر أنها أصبحت تُوظّف سياسيا، ناهيك عن الميليشات المسلحة التي تعزز من وجودها على حدودنا.
لقد أصبحت هذه المسألة اليوم مسألة أمن وطني واجتماعي واقتصادي وأخلاقي، ولا يمكن تحت أي اعتبار، أن نقبل أن يُضغط علينا بتوظيفها سياسيا، فهذا ليس أسلوب دول، بل أسلوب عصابات.
ورغم كل المحاولات الأردنية، واليد التي امتدت لسوريا، والتنسيق والتنازلات التي قدمناها، ولكن لا حياة لمن تنادي، ويبدو أن دمشق تفسر مواقفنا الحسنة بأنها نابعة من موقف ضعف، لكنها قراءة خاطئة.
فقد أثبت الأردن على مر تاريخه أنه أكبر من كل الصعاب والمؤامرات، وأنه لا يهادن ولا يتهاون بحماية شعبه.
خلاصة كلامي أن النظام السوري اليوم يبدو مختالا ببقائه الذي يعتبره نصرا مؤزرا، ويعتقد أن بقاءه يسمح له بممارسة ما يريد وعلى من يريد، وأنه لا نية لديه لتغيير سلوكه في القضايا الإقليمية الخلافية.
على الدولة السورية أن تعود إلى رشدها، وأن تخرج من الارتهان لظروف الحرب، التي نحاول أن نتجاوزها، فهذه الحسابات التي تمارسها اليوم حسابات قصيرة النظر وهشة ولا يمكن أن تعبر عن دولة المؤسسات المستدامة الآمنة.
لكن الأكيد أن جيشنا العربي المصطفوي يقف سدا عاليا منيعا لا يمكن لأحد أن يتجاوزه، فبينما ننام منعمين ونتجول آمنين في كل شبر من أرض هذا الوطن، يقف جنودنا البواسل على الحدود، متأهبين مترقبين كالأسود، في وجه الإرهابيين والمجرمين.
فكم من جندي أردني وهب حياته في سبيل هذه الأرض، ولأن قطرة دم أردنية واحدة، أغلى عندنا من الدنيا، فقد اتخذ جيشنا قرارا بتطبيق قواعد الاشتباك والضرب بيد من حديد على كل المعتدين، بعد أن استغل المجرمون إنسانية الجيش الأردني وأخذوا يستغلونها كعنصر مفاجأة لقتل أبنائنا على الحدود.
يوم أمس تابع جلالة الملك عبدالله الثاني تمرين الرد الحازم التعبوي على جبهتنا الشرقية، وهذه رسالة لمن يريد أن يفهم، أن جيشنا على أهبة الاستعداد لمواجهة ومجابهة كل الاحتمالات، ولن يتوانى في ضرب أي تهديد يقترب من المملكة.
اليوم يقف جيشنا على الحدود نيابة عن الجوار والإقليم والعالم، ومن البديهي أن معضلة المخدرات السورية، ليست شأنا بسيطا، فكما هي اليوم هاجس يؤرق الأردن الرسمي والشعبي، فهو كذلك غول شرس يتربص بالأرقام والدلائل بالدائرة الأوسع سواء في الخليج أو الإقليم وصولا إلى أوروبا والعالم.
وهذا تهديد لا يجب أن يُترك الأردن وحيدا في التعامل معه، بل على الأشقاء العرب والحلفاء والشركاء حول العالم الوقوف معنا، فالتهديد واحد ويطال الجميع.
مقتطفات من المقابلة الخاصة التي اجريت لصالح وكالة الانباء الدولية associated Press
علاج نهائي
ليس من الغريب أن نشاهد ونستمع إلى حملات التشويه التي تحاول النيل من الجسم الطبي الأردني، الذي يشهد له العالم بكفائته واحترافيته ونزاهته، فمن يهاجم الأطباء اليوم لا يحمل هما إنسانيا، بل هما ربحيا.
إن الأطباء في كل أنحاء العالم تتم معاملتهم دائما على أنهم الجيش الأبيض وخط الدفاع الحصين عن أرواح الناس، وتوفر لهم الامتيازات والرفاهيات التي تساعدهم ليس فقط على القيام بواجبهم بل على التطور والتقدم والنهضة والنمو.
لكن وللأسف، فنحن نشهد ومنذ سنوات تراجعا واضحا في أوضاع الأطباء، مهنيا واقتصاديا وكذلك اجتماعيا.
فالطبيب صار يكافح بعد سنوات وسنوات من الدراسة والبحث وبذل صحته وعيونه في رحلة العلم، صار يكافح لتأمين لقمة عيشه آخر الشهر، وأنتم أعرف مني بأوضاع الأطباء الخريجين ويصطدمون بواقع صعب، وظروف عمل قاسية تصل للمناوبة 36 ساعة متواصلة بمقابل راتب بعشرات الدنانير وأحيانا بلا مقابل.
وإنه لا يمكن لأحد أن ينسى أن الجيش الأردني الأبيض قدم ما قدم من الشهداء دفاعا عن الوطن وأبنائه من وباء كورونا، وأنه لم يمتعض ولم يتحدث ولم يطالب في ذلك الوقت بدينار واحد مقابل ما يفعل.
فالجيش الأردني الأبيض جيش إنساني لا يُسلّع الناس ولا يفاوض على حياتهم، وأما شركات التأمين فقد واصلت في تلك الفترة في استفياء الاقتطاعات من الناس على سياراتهم وتأميناتهم الصحية وغيرها، مع علمهم أنه لا يوجد أحد يتحرك بسيارته أو يخرج من بيته لمراجعة العيادات.
ومن المؤسف الاتهامات التي تطالنا نحن الأطباء من اتحاد شركات التأمين الذي لم يجرؤ حتى على الظهور عبر أي محطة إعلامية، والدفاع عن موقفهم واتهاماتهم للجسم الطبي، فالموقف الطبي واضح ولا لبس فيه، ولا مساس فيه للمواطنين على الإطلاق، فالحالات الطارئة سيُقدم لها العلاج فورا، وأما غير الطارئة فسوف يُحرر وصل بقيمتها لتتكفل به شركات التأمين، والحالات غير الطارئية أصلا تُجدول وتؤخر بالعادة على مدار أشهر.
وأما ما يطالب به الأطباء فهو فتاتٌ يقيهم قساوة العيش أمام أرباح طائلة تحققها شركات التأمين، وليس على المواطن أن يدفع فلسا واحدا زائدا، فالمعركة الحقوقية اليوم نخوضها مع التأمين وما يحققه من أرباح خيالية.
وأما الاتهامات بأن اللائحة الجديدة التي تطالب النقابة بتطبيقها ترفع الأسعار 400% وأن اللائحة تخالف القانون، فالبينة على من ادعى، وهو كلام لا أصل له ولا فصل، وعلى العكس، فقد انخفضت تسعيرة العلاج للحالات الأكثر شيوعا.
لقد ماطلت شركات التأمين منذ خمسة عشر عاما، وظل الأطباء يرزحون تحت كِسرة الخبزة اليابس التي تقدم لهم، فالاختصاصي الذي أمضى 40 سنة من عمره يكافح بين العلم والممارسة، يحصل على 6 دنانير من التأمين، ففي أي عرف وقانون يعد هذا عدلا! فيما تواصل شركات التأمين رفع أقساطها وتواصل تحقيق مرابحها الصافية الكبيرة، وتتهرب من الحوار وترفضه رغم إصرارنا عليه.
نحن الأطباء أصحاب المهنة الإنسانية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نعرض لا سمح الله أي مواطن لخطر، بل نحن أول من يفزع للأردن والأردنيين، وقد أثبتت الأيام ذلك وسنواصل التأكيد على ذلك.
ما أريد قوله كطبيب أردني شعاره الإنسانية، أننا نحن الأطباء نضع المواطنين على رأس أولوياتنا ولا علاقة لهم بأي شد وجذب يجري حاليا، أما محاولة البعض اللعب بوتر الشعبويات والتهويل للمواطنين على أن ما يجري يؤثر عليهم، فهو كلام مغلوط ومضلل ويحاول إبعاد العيون عن أرباحهم الخيالية وتجنيبها أي مساس.
فراس الجحاوشة .. سياسي ضَل طريقه الى العيادة
ليس بحكم أثر جيني,إكتسب لونه الذهبي, بل بحكم انتمائه الى التراب البدوي الذي نسعى إلى إحالته إلى ذهب, كما قلنا ذات ترويج لصحرائنا الجميلة, بل وتأكيد على انتمائه الى قريته الوادعة على تخوم الخط الصحراوي, فهو ابن قرية الذهيبة, التي ترقد على حواف البادية الوسطى, والذهيبة فيها من الذهب البشري ما يفيض عن حاجة مدينة كاملة وليس قرية فقط, هناك كانت البداية, لشاب حمل لونه الذهبي وقريته الى اخر اصقاع العالم الملبد بالثلج والجليد, فعاد طبيبا, اناخ راحلته في بيدر الشرف والرجولة في القوات المسلحة التي ظلت عربية في المبنى والمعنى رغم قطرية المرحلة.
فراس الجحاوشة, بمهارة البدوي وقدرته على اشتمام الأنواء, إشتم القادم في التكنولوجيا والعلم, فذهب الى التخصص بالاشعة التشخيصية, وبفطرته المسنودة بالمعرفة والعلم, ابدع في التخصص حتى بات أمهر ابناء جيله ولا اقول من أمهرهم, فمركزه الطبي صرح يؤمه الموجوعون من كل اصقاع الدنيا القريبة والبعيدة, فنانون يشكرون جهده, ومؤثرون يرجون علمه, ومرضى يلهجون له بالدعاء, وانا منهم, لكنه غافل الجميع بهدوء ممزوج بكثير من الوقار, وبسيل جارف من المعلومات والتحليل السياسي, تحديدا اذا ما كان الحوار عن الحرب الروسية الاوكرانية, فكل الهدوء يتحول الى رصاص من الكلمات الواثقة بدقة تصويبها, ويزداد الصلي اذا ما تعرض احد لمكمن الوفاء عند البدوي الذي يحمل لون الذهب في بشرته وفي اصيل معدنه, فهو مثل كل ابناء البدو يحمل من الوفاء الكثير ولا يطعن في الظهر, فلا تعبثوا معه في بلد دراسته.
ثمة فائض من وفاء وتربية, والنجاح ليس وليد علم ومعرفة, بل فيه مسحة صوفية عنوانها, رضى الوالدين الذي هو من رضى الله, فهذا الطبيب السياسي, لا يخرج قبل طلب رضى الله ورضى الوالدين, وهذا ما كشفه خلال حفل وطني هائل لافراح المملكة الكثيرة في الاشهر الماضية, حين قبل هو بتكريم واحد, تقبيل يدي والده ورأسه, واظن هذه هي شيفرة النجاح وكودها, وقلة يدركون هذا الكود, ليس سهلا الاستمرار في تشخيص طبيب من ذهب, لكنها محاولة لسبر ان ما يلمع في شخصية فراس الجحاوشة هو ذهب خالص, فوسامته عنوان البداوة الحقيقي, وفيه فعلا, كل ما يلمع ذهباً
معادلة أردنية بسيطة في العشق
مؤخرا، ومع كل صباح، أشعر أننا أقرب للأردن،
ذلك الأردن الثابت والشامخ كالطود، الذي ننتمي إليه وينتمي إلينا، ذلك الوطن الذي كان ولا يزال وسيظل قدره بحكم جغرافيته السياسية ومعدن أهله الطيب وثوابتهم التي لا تتزحزح أن يكون في مهب عيون العواصف فيمر عنها صلبا متماسكا أكثر من كل ما هو قبل.
لا يوجد سر غامض في قدرة الأردن على ان يكون كذلك، سره بسيط يكمن في معادلة أكثر بساطة في طرفها الأول توجد قيادة وهبها الله الحكمة وقد أنعم عليها ببركة السلالة، ومن طرفها الثاني أردنيون يؤمنون بتلك القيادة، لا أكثر ولا أقل، فقط يؤمنون بها بلا مزاودات.
قيادة عميدها وكبيرها جلالة الملك عبدالله الثاني ومعه عضده وسنده ولي عهدنا المحبوب سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله، يضربون المثل والقدوة حتى في أدق تفاصيل حياتنا اليومية ويعيشون أحزاننا وأتراحنا وهم منا وفينا منذ كنا في هذا الوطن الذي بنيناه دولة.
وإلينا في ظاهرة إطلاق العيارات النارية التي أودت بحياة العريس الشاب حمزة الفناطسة، مثالا، حيث استدعت أن نتابع ولي العهد يذهب إلى معان للمرة الثانية في ظرف أيام قليلة، ليعطي النموذج الأوضح ببساطة الأمير الهاشمي وعمقه في آن.
وهذا ما يحفزني كمواطن أن أطرح على نفسي سؤالا، ما الذي يجب أن أقدمه للأردن بدوري، وهل أنا عنصر فاعل في النسيج الوطني؟
وما توصلت إليه أن الإجابة على هذا السؤال لا تكون بالكلمات، بل بالأفعال، لكن قبل ذلك عليّ أن أضع الأردن، في صميم أولوياتي، وعلى رأس بوصلتي، انطلاقا من قاعدة التشدد في حب هذا البلد وتقديمه على كل المصالح والحسابات.
يعيش على هذه الأرض، أردنيون مجبولون بحب ترابه، من كل الأطياف والفئات والتوجهات، لكننا وكما قلت سابقا، إننا جميعا نمثل عشيرة الأردن الكبرى، من أبناء الصحراء إلى بيوت الأرياف والمخيمات والمدن.
وعلينا أن نكون جميعا منحازين للوطن ومتطرفين في العمل لأجله، وأن ندرك أننا في مرحلة لا تقبل التسويف أو التراخي وأن دورنا فيها محوري وجوهري، وأننا اليوم نرسم ملامح الغد القريب.
ومما لا نساوم عليه أن حب الوطن يأتي من منطلق لا يقبل المقايضة أو المبادلة يعكس انتماء المواطن لمجتمعه وثقافته وقيمه، وهذا يسهم في تعزيز الهوية الوطنية والمجتمعية والحفاظ على الهويات التقليدية والقيم الخاصة بنا وتعزيز الانضباط المجتمعي والالتزام بالقوانين والأخلاقيات، وهو ما سيسهم في ترسيخ تلك القيم ونقلها إلى الأجيال الصاعدة مهما تغيرت ظروف العالم وشكله.
إن المواطنين هم العنصر الأساسي في بناء وتطوير الوطن، وليس من طريقة أفضل لتعزيز الانتماء الوطني مثل تفعيل المشاركة السياسية والمدنية ، ولعب دور نشط في تشكيل المصير عبر الأحزاب الحقيقية التي ستعكس فسيفساءنا الأردنية الرائدة، أحزاب تضع برامج حكم وإدارة مبنية ومؤسسة على قيمنا الأصيلة لتكون مؤهلة فعلا ان تكون أحزاب تمثل الأردنيين وتطلعاتهم.
وخلاصة كلامي أن حبي لقبيلتي وانتمائي وحبي لتراب الوطن عقائدي حر وأصيل وهذا الحب يجب أن يُترجم بالتماهي مع دعوة جلالة الملك لحياتنا الحزبية القادمة، وأن على الأحزاب أن تختلف في كل شيء إلا على الوطن، ولن يتحقق ذلك إلا إن كانت نواة كل حزب، حب الوطن ولا شيء سواه.
هل يمكن أن تستخدم روسيا سلاحها النووي وأين؟
هل يمكن أن تستخدم روسيا سلاحها النووي وأين؟
في عام 1533، أصبح إيفان البالغ من العمر 3 سنوات أميرا كبيرا لموسكو، بعد وفاة والده فاسيلي الثالث، بالطبع لم يتول إيفان الحكم مباشرة بل نابت عنه أمه لعدة سنوات قبل موتها ومن ثم مجموعة من النبلاء عرفوا باسم المجلس المختار حتى عام 1547، حين أصبح إيفان ذو الأربعة عشر عاما الذي عُرف بالرهيب أو المخيف أولَ قيصر في تاريخ روسيا، والذي اتسمت فترة حكمه بالحروب الطويلة.
هناك كتاب بعنوان “روسيا: قصة الحرب” لغريغوري كارليتون يبحث في الصورة الذاتية لروسيا، ويعود بالزمن إلى ثمانية قرون مضت، يتتبع فيها كارليتون نجاة روسيا من حروبها الملحمية ضد الغزو المغولي.
ومن هذه الملاحم، قيام هذا الرهيب عام 1552، بحصار وغزو عاصمة تابعة لدولة المغول وهي خانية قازان على نهر الفولغا، وبحسب الأسطورة فقد جرت الدماء والجثث في النهر لسبعة أيام متواصلة، ونجح الجيش الروسي بالسيطرة على المدينة، بعدها ودون قتال استولى على خانية أستراخان الواقعة عند مصب نهر الفولغا، ما جعل من نهر الفولغا نهرا روسيا، وهكذا تم تأمين الطريق التجاري نحو بحر قزوين.
وبحسب كارليتون، فإن قصة حصار قازان توضّح تبلور الاستراتيجية القائلة أن أفضل أسلوب لمواجهة التهديد الأجنبي هو الحرب.
أما في يومنا هذا وقرننا هذا، فإن ما يُعرف به الغرب دائما هو قدرته على التحايل على القوانين والأنظمة التي يضعها بنفسه ويريد فرضها على كل بقعة في العالم، وليس أدل على ذلك من حلول الذكرى العشرين قبل أيام لاحتلال العراق ونهبه وتدميره وتحويله إلى كرة من نار، رغم أن كل الوثائق التي تسربت والتي نشرت ولا تزال تنشر من الغرب نفسه تقول إن حجة احتلال العراق لتدمير أسلحة الدمار الشامل كانت محض كذبة.
قد ترمي سياسة الردع النووي الضبابية لموسكو التي تقول إن أهم سببين لاستخدام السلاح النووي هما الرد على استخدام سلاح نووي وغيره من أنواع أسلحة الدمار الشامل ضدها أو ضد حلفائها، والعدوان ضد روسيا باستخدام السلاح العادي في حال شكل تهديدا لوجود الدولة، قد ترمي إلى حمايتها من أساليب الغرب الكثيرة لاستهدافها، وقد تشكل عنصرا لسياسة الردع والتحذير من أي هجوم التوائي، فماذا لو علمت روسيا بهجوم قبل وقوعه أو تعرضت الصواريخ النووية الروسية أو القدرات النووية الروسية للتدمير بصواريخ وأسلحة غير نووية؟ هنا يكون التقدير لروسيا بشأن طبيعة الرد.
صحيح أنه ومنذ القصف الذري الأمريكي على هيروشيما وناجازاكي عام 1945 تكمن قوة السلاح النووي باعتباره سلاحا رادعا، وأنه منذ ذلك الحين والجميع يحبون أن يبقوا عليه وسيلة للتفاوض والضغط والتلويح بالقوة، لأن استخدامه يعني نتائج كارثية على العالم كله.
ولكن ومن متابعتي لما يحدث في أوكرانيا، فلا يبدو لي على الإطلاق أن سياسة حافة الهاوية التي تلوّح بها روسيا مزحةً على الإطلاق، وإن كانت الولايات المتحدة لا تستشعر حتى الآن خطورة الخطوط الحمراء الروسية، وأنه في حال استشعرت روسيا خطراً وجودياً مثل السيطرة على شبه جزيرة القرم، أو عدم انتصار روسيا في أوكرانيا أو حتى إضعاف روسيا، فلن تتردد موسكو بالتصعيد وربما بخوض معركة مباشرة مع الناتو وإن كلف ذلك استخدام الأسلحة النووية.
ولكن لي رأي مختلف هنا، وأعتقد أن روسيا قد تقلب الطاولة على الجميع في أي لحظة، لكن من الأراضي البولندية، فقبل أن تتشكل هوية الدولة الحديثة لأوكرانيا بخطأ زعيم الثورة البلشفية فلاديمير لينين الذي منحها الاستقلال الذاتي داخل الدولة السوفيتية، كما يؤكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فهناك تاريخ طويل لأوكرانيا مع بولندا، فمثلاً بين عامي 1349 و1430 احتلت بولندا وبعدها مملكة بولندا ودوقية ليتوانيا الكبرى، معظم المساحات الغربية والشمالية الحالية لأوكرانيا.
وفي عام 1596 أسست بولندا الكنيسة اليونانية الكاثوليكية بالاتفاق مع الإمبراطورية البيزنطية، لتسيطر هذه الكنيسة على معظم المساحات الغربية من أوكرانيا، وفي مطلع القرن السابع عشر، مدّت بولندا سيطرتها على معظم أوكرانيا الحالية، وأصبح سكان أوكرانيا بغالبيتهم إما يعيشون تحت نظام الإقطاع الزراعي القاسي، وإما جنوداً في الجيش البولندي، وكذلك حروب القرن العشرين وسيطرة بولندا على ثلث الأراضي الأوكرانية غربي البلاد، وصولا إلى قيام الدولة الأوكرانية المستقلة سياسيا وترابيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
وبالتالي يمكننا أن نفهم أن هذا السخاء الكبير والدعم العسكري الضخم الذي تقدمه اليوم بولندا لأوكرانيا ليس مجانيا وليس دفاعا عن استقلال الدول وسيادتها كما تدعي، بل هو مجرد أطماع قديمة متجددة بالأراضي الأوكرانية.
وأنا أعتقد أن روسيا تعي ما يجري، وأنها تفكر باحتمالات عديدة، وربما يكون واحد من خياراتها استدعاء قصة حصار قازان والاستراتيجية القائلة بأن أفضل أسلوب لمواجهة التهديد الأجنبي هو الحرب ليس فقط في أوكرانيا بل في بولندا أيضاً.
فربما يكون خيار استهداف بولندا بسلاح نووي تكتيكي خيارا مطروحا، فالسلاح التكتيكي يمكنه شل القدرات البولندية في مناطق محددة وغير واسعة، وبالتالي يمنعها من احتلال أي أراضي في أوكرانيا، ومن ناحية أخرى يتم تفادي انتشار الإشعاع النووي بشكل واسع أو وصوله إلى الأراضي الأوكرانية، كما أنه قد لا يتسبب بإشعال حرب عالمية ثالثة مع دول الناتو، لأن الناتو يعرف أن الحرب النووية مع روسيا ستكلف على الأقل عشرات ملايين القتلى.
إضاءات على التصورات الروسية
إضاءات على التصورات الروسية
ربما واحد ممن يساعدنا في فهم العقل الروسي ونظرته للعالم هو المفكر والفيلسوف الروسي ألكساندر دوغين الذي يعتبر أن الرأسمالية التي دخلت روسيا عقب انهيار الاتحاد السوفيتي كانت أكثر سوءا من الشيوعية.
يقول دوغين إن النظام الروسي الحالي بقيادة فلاديمير بوتين يقوم على تعزيز القيم التقليدية والمجتمع المحافظ في روسيا، وأن هذا المجتمع الذي يتمتع بصفاته الخاصة ليس عليه أن يكون تابعاً للغرب الذي يحاول إسقاط أفكاره الليبرالية والديمقراطية على كل شعوب العالم دون تمييز، لكنه يقول إن واحدة من أكبر التحديات أمام روسيا هو وجود نخب ليبرالية مؤثرة داخلها، وتسعى لفرض النزعة الغربية التي تعرقل خلق تاريخ وهوية خاصة بروسيا.
على المستوى الديني فإن روسيا دولة مسيحية أرثوذكسية، لكنها تقول في الوقت ذاته مثلا أن الإسلام جزء لا يتجزأ من تاريخها وأنها لا يمكن أن تسمح بضرب الصداقة بين قومياتها وأن هناك قدسية للأديان لا يمكن المساس بها حتى وإن اختلفت، بمعنى آخر فإن روسيا اليوم تحاول أن تكون دولة قومية وطنية تدافع وتعلي من قيمها المحافظة، خاصة أن روسيا عانت على مدار القرن الماضي من تشظي هويتها ومن تحولات اجتماعية وثقافية ودينية حادة بين الأنظمة العديدة التي حكمتها.
ورغم أن روسيا قوة عظمى جغرافيا ونووياً، إلا أنها تشعر أن أمنها مهدد على أكثر من صعيد، وترى أنه من حقها حماية مصالحها، كما يفعل الغرب لحماية مصالحه، وقد اشتكت موسكو مرارا من تجاهل النظام العالمي لمخاوفها الأمنية ومواصلة الناتو التمدد من حولها، فمثلا هي ليست محمية جغرافيا أو طبيعيا لأنها تمتلك الاف الكيلومترات من السهول المفتوحة غربا، وشكل لها ذلك عقدة تاريخية تمثلت بتعرضها للغزو أكثر من مرة، لكنها تبدواليوم عازمة بشكل جدي على تثبيت مصالحها بالدبلوماسية أو بقوة السلاح.