يمكن لنا أن نسجل المشهد التالي كل يوم في أي شارع في أي مدينة أردنية أمام أي إشارات مرور:
الوقت عادة يكون ليلا حيث لا أزمة سير حانقة، بل تقاطع طريق يكاد يكون خاليا، وسائق سيارة يتأكد بالتفاتتين أو ثلاث أن لا دورية شرطة في الجوار ولا سيارات في أي جهة ولا كاميرا منصوبة على الإشارة فيقرر متوترا أن يقطعها حمراء.
المشهد ذاته يمكن تسجيله في أي شارع آخر في أي مدينة أوروبية بذات الظروف، لكن السائق هناك ينتظر براحة بال الضوء الأخضر من الإشارة ليتحرك بهدوء في طريقه.
الفرق بين السائقين، هو فرق بين حالتين من الوعي: حالة الخوف من القانون عند السائق الأول، وحالة احترام كامل للقانون عند السائق الثاني.
القصة في هذا الوعي أمام مفهوم القانون لا تقتصر على قوانين السير، بل هي أعمق من ذلك وتتعلق برؤية الناس للقوانين، هل هي رادع مليء بالعقوبات أم قواعد تنظيمية مراعاتها تعني مجتمعا منظما؟.
في الأردن، الذي يدخل مئويته الثانية كدولة استطاعت تجاوز كل التحديات والاستهدافات، وقامت على أكتاف رجال مخلصين ولدتهم أمهاتٌ أصيلات بحجم الوطن، بذلوا أنفسهم وكلَّ غالٍ ونفيس، لا طمعاً بمال ولا رغبةً بجاهٍ ولا خوفاً من أحد، بل إعلاءً لراية هذا البلد الخيّر وإعماراً لأرضه وتوحيداً لأهله، نقرأ في تفاصيل حياتنا اليومية الحالية نوعا من الاستهتار بالقوانين، التي تم وضعها لتنظيم حياتنا، فصارت البطولات الفردية في المجالس متعلقة بمن يتحايل على القانون أو يكسره بدون أن يتم ضبطه.
أقول ما أقول، لأنني أستشعر المسؤولية الكبيرة تجاه شأنٍ قد يراه البعض تفصيلة غير مهمة أو هامشية، لكن الحقيقة أن الأوطان كل الأوطان لا تبنى إلا بالوعي، والوعي هنا يعني الإدراك الكامل والشامل للحقوق والواجبات والتي لا ينظم العلاقات فيها إلا منظومة واضحة من التشريعات التفق عليها، وأتحدث هنا عن القانون.
أيها الأردنيون يا أهلنا وناسنا، إن القانون ليس سيفاً مسلطاً على رقابنا، وليس حملا ثقيلا على ظهورنا، وليس الهدف من الامتثال له أو محاولة التحايل عليه تجنب عقوبة أو غرامة!، بل إنه أداة تمكننا من ضبط شؤوننا وترتيبتها، وينبغي أن يكون الالتزام به طواعية ونابع عن رغبة وانتماء.
أما الإخوة المسؤولين وخصوصا المشرعين ورجال تطبيق القانون، فهذه دعوة لكم أيضا أينما كان موقعكم ووظيفتكم، فليس الهدف من تشريع القانون أو تنفيذه تعجيز الناس ولا ترويعهم، بل الهدف الأسمى منه هو تنظيم وتنسيق شؤوننا المجتمعية بما يسمح بتطوير هذا المجتمع الأصيل الطيّب الكبير، وطبعا لردع من تسول له نفسه المساس بهذا البلد وأهله.
أنا أرى أنه صار لزاماً علينا أن نراجع علاقتنا التعاقدية كمواطنين مع قوانينا ودستورنا، وأن نعيد رفع الوعي بين الناس والمسؤولين بما يؤكد على أن التشريع وإقرار القوانين والالتزام بها، كلها مراحل تهدف للحفاظ على ترابطنا ولحمتنا وقوتنا وليس لعقابنا أو زجرنا.
بالتالي علينا أن نفتح حواراً صادقاً مع أنفسنا، وأن نؤكد أنه قبل الانخراط بخوض معارك السياسة والأحزاب وغيرها بلا طائل سوى الجدل، يجب أن تتوفر الإرادة الصادقة وأن الالتزام بالقوانين بدافع ذاتي هو الأساس الأهم ومفتاح بناء الدولة.
ربما، تلك أهم أهداف على أي حزب جديد أن يؤطرها في أدبياته، وإلا انتهى الحزب إلى تقاطع طرق فوضوي بلا إشارات مرور تنظمه.