قصتي
البعض يقول إن العالم مصادفات مزدحمة بالمفارقات!
قرر الأطباء حينها أني بحاجة إلى نظارة سميكة بعد فحص تبين فيه أن نسبة الضعف عندي وصلت نسبة ٦ إلى ٦٠. وهي مرحلة حرجة في الرؤية وكان ذلك في منتصف ثمانينات القرن الماضي.
ارتديت النظارة، وتعرضت في المدرسة لأقسى أنواع التنمر –الذي لم يكن حالة معروفة التشخيص اجتماعياً حينها- وصار أقراني يسخرون من نظارتي السميكة ويلقبونني بـ “الدكتور” في سياق السخرية المستمرة طوال اليوم.
كطفل لديه اعتزاز هائل بنفسه، خصوصاً بتفوقه المدرسي المستمر، قررت بعد فترة وجيزة أن أخلع النظارة ولا ألبسها مطلقاً، لعل التنمر يتوقف.
وبإصرار وتعنت شديدين، عشت لسنوات طويلة امتدت حتى مرحلة الثانوية العامة دون ارتداء النظارات، وشكل لي هذا معاناة شديدة اضطررت للتكيف معها بمشقة هائلة في المدرسة والشارع والبيت والحارة وبين كل من عرفتهم.
المفارقة أنني كنت طفلاً يحمل أحلامه البريئة، والتي كانت ذروتها أن يصبح طياراً مقاتلاً حين يكبر، ولم يفهم الطفل في داخلي أيامها العلاقة بين ضعف البصر وشروط قبول الطيارين، تلك معضلة أكبر من خيال ذلك الطفل الذي كان حلمه يكبر أكثر يوماً بعد يوم.
كنت أُحدّث أبي العسكري عن ذلك الحلم، ولم أر –أيامها- ذلك الحزن في داخله، والذي تولّد عنده تصميماً حازماً أن يفعل المستحيل ليحقق حلمي، كنت أرافقه إلى عمله في معسكرات الجيش أحياناً، وكان يتملكني الشغف أن أقود طائرات مقاتلة وأصبح عسكرياً في السماء..هو حلم طفل يكبر معه، ويجهل – ببراءته- حقيقة مفادها أن قبول الطيارين يحتاج نظراً ثاقباً لا وجود لأدنى علة فيه، لكن تلك الحقيقة لم تغب عن بال والدي كما لم تغب عن إرادته، بالبحث عن الفرصة التي يخترق فيها المستحيل ليحقق حلم ولده.
في الثانوية العامة، صرت أدرك الحقائق، وصار الحلم مجرد خيال يراودني، لكنه بقي في خاطر والدي ووجدانه مهمة واجبة، وحينها وبعد الامتحانات طلب مني والدي أن أصطحبه إلى مستشفى “ابن الهيثم” والذي كان أول من أدخل تقنية العلاج بالليزر لحالات تشبه حالتي، وكانت تقنية علمية متقدمة وجديدة أيامها، وطبعا مكلفة جدا.
وفعلا، وبعد آخر امتحانات الثانوية العامة وقد تفوقت بها بمشقة الرؤية الضعيفة، أجريت عملية الليزر لعيوني، وبعد ثمانية أيام منها وإزالة العصابة عن عيوني، تغيّر العالم المشوش الذي كنت أراه إلى مهرجان واضح الملامح تملؤه البهجة، وقد عاد بصري كامل الأهلية لا أدنى علة فيه.
تلك كانت معجزة مكتملة بالنسبة لي، لكن المهمة لم تكتمل عند إرادة والدي التي كبرت مع الحلم الذي حملته طفلا، فلا يزال محفوراً في وجدانه حلمي أن أكون طياراً مقاتلا.
بعد شهر تقريباً من احتفالي بالرؤية الكاملة من جديد، ذهبت إلى المفرق حيث قاعدة الملك حسين الجوية لإجراء فحص الطيارين، وأُثناء إجراء الفحوصات تبين أن هناك إجراءً روتينياً متبعاً يقضي بوضع قطرة في العين أثناء الفحوصات الطبية، وحينها وبخوف شديد من أي انتكاسة قد تفقدني الرؤية التي فرحت بها بعد عناء ومشقة كلفتني عمراً كاملا، انسحبت من الفحوصات واستنكفت عن إجراءات قبولي طياراً، وعدت إلى المنزل سعيداً بقراري ومبتهجاً بعيوني المبصرة.
سألني والدي عن النتائج فأخبرته بثقة أنني استنكفت؛ لأني لا أريد أن أخسر الرؤية الثاقبة من جديد، فابتسم بتفهم وسألني عن طموحاتي وعمّا أريد أن أكون؟ فأجبته بثقة: دكتور.
وفعلاً، درست الطب، وتخرجت بتفوق خلال دراستي في الخارج، والتحقت على خطى والدي ضمن صفوف الجيش بالخدمات الطبية الملكية، لتكتمل المفارقات فيكون أول توزيعي العسكري، طبيباً يفحص المتقدمين للانتساب إلى سلاح الجو في قاعدة الملك حسين الجوية.
تلك حكاية تلخص سطورها وما بينها الكثير عني، رجلاً يؤمن بالعلم كما يؤمن بألطاف الله وحكمته، ويؤمن بوطنه أباً عن جد، وكابراً عن كابر، وطن تبنيه المعرفة والعلوم والطيبون ..مثل والدي.