لا شك أن العلاقات بين عمّان ودمشق شابها الكثير من التأرجح والاضطراب منذ قيام الدولة الأردنية عام 1921.
لكن في كل مفاصل تلك العلاقات كان الأردن يثبت على الدوام أنه جدير بالثقة وذو عمق عربي أصيل، ومن آنف الذكر الإشارة للبادية الأردنية التي تشكلت عام 1931 ودورها المحوري في إعادة السلام لحدود البلدين بعد معضلة الغزوات بين القبائل الأردنية والسورية، بل وتوقيع الملك الراحل الحسين بن طلال وحافظ الأسد بروتوكول الوحدة في عام 1976، الذي أقام تكاملا غير مسبوق، وألغيت بموجبه الجوزات بين البلدين.
وصل التشكيك السوري في الأردن حدا دفع تلك الدولة الشقيقة لحشد دبابتها وعسكرها على حدودنا في غير مرة، ولكن عمّان كانت تؤكد مرة تلو الأخرى أن يدها شجاعة لا تعرف الغدر وأنها لا تمتد إلا لتصافح.
وقد قطع الحسين بقلبه العروبي كل الحجج والأعذار في عام 1985 عندما زار سوريا، مُنهيا قطيعة حكمت علاقات البلدين لعدة سنوات، ومن ثم قام بخطوته التاريخية الشهيرة في عام 1987 عندما عقد اجتماعا سريا في الجفر بين الرئيسين حافظ الأسد وصدام حسين.
وحاول الملك الراحل الجمع بين الإخوة العرب، ومن العجيب ذكره أن ذلك الملك كان ولساعات طويلة يتولى بنفسه مهمة إدخال الطعام والشراب للرئيسين، في محاولة دؤوبة وجادة لتوفير الظروف المواتية للتوفيق بين العراق وسوريا.
مرت السنوات، وظل الأردن يبني الروابط والصلات مع سوريا، حتى وقعت الحرب في سوريا عام 2011.
وكلنا نعرف التعقيدات الشديدة التي سيطرت على كل المنطقة، والتي دفعت الأردن عام 2015 مضطرا إلى إغلاق معبر نصيب جابر، رغم أنه قرار شكل ضغطا كبيرا على اقتصاد المملكة التي سجل التبادل التجاري بينها وبين جارتها الشمالية عام 2010 نحو 615 مليون دولار.
كما نذكر جميعا تفجير الرقبان الإرهابي عام 2016 والذي كلفنا سبعة شهداء من جنودنا.
ورغم كل ذلك، استمر الأردن على نهجه، وفي عام 2018 تحرك وفد اقتصادي تجاري إلى دمشق، ومن ثم أعيد افتتاح الحدود جزئيا من 2018 وحتى أوائل 2020، وكانت كل مرات التعثر لأسباب فرضت نفسها على الحدود، سواء من تفشي وباء كورونا أو معارك مسلحة كانت تجري في محافظة درعا السورية.
وفي عام 2021، نتذكر المكالمة التي تلقاها جلالة الملك عبدالله الثاني من الرئيس السوري بشار الأسد، وبعدها تبادل الزيارات الثنائية بين الوزراء والمسؤولين السياسين والاقتصاديين والتجاريين والأمنيين، والتحرك الأردني المتقدم لإعادة سوريا للحضن العربي مجددا.
لأننا نؤمن أن استمرار العنف لم يؤد إلا إلى توالد المزيد من الخراب والدمار، فارتأى الأردن أن يقود الجهود السياسية والدبلوماسية صونا للمصلحة السورية وشعبها والأردنية والإقليمية والعالمية.
فتحت عمّان يديها لسوريا، ولنقلها بصراحة فقد قام الأردن بضغط معاكس وهادئ بدون ضجيج على قانون قيصر الأمريكي، ووُقع في عاصمتنا في عام 2021 بين الأردن ولبنان وسوريا ومصر، اتفاق على توصيل الغاز الطبيعي المصري إلى لبنان عن طريق سوريا باستخدام خط الأنابيب العربي.
وكانت المعادلة كالتالي، الجميع رابح فلبنان الغارق في الأزمات، سيحصل على طاقة تخفف من ظلمته، ومصر ستصدر الغاز، والأردن سيصدر الكهرباء، أما سوريا فسوف تلتف على عزلتها الدولية، وتتاح لها فرصة إعادة الاندماج بالاقتصاد العربي ومنه إلى العالمي، وتتاح لها أيضا فرصة للتحلل من فكي حلفائها الرئيسيين.
أما الثمن المطلوب من سوريا، فقد كان ولا يزال، أن تعود وتتصرف فقط كدولة حقيقية.
ورغم أن الأردن حاول أن يلعب دوراً سياسياً إيجابياً تجاه أزمة جارته الشمالية، لكن الإحسان لم يقابل بالإحسان، فنغمة التشكيك مستمرة، بل الأسوأ، أن حدودنا معها والتي يبلغ طولها 375 كلم، تتعرض لضغط أمني كبير وخطير ومستمر.
فالملاحظ أن الحدود تحولت لمصدر تهديد استراتيجي للأمن القومي الوطني، فتهريب المخدرات تحول من مستوى الأفراد والعصابات الصغيرة المفككة، إلى مستوى شبكات إقليمية بدعم وتغطية رسمي، وأقول رسمي لأن الشمس لا تُغطى بغربال.
ويبدو أن هذه التجارة الآثمة أصبحت شريان حياة لجارتنا الشمالية ومصدرا أساسيا للعملة الصعبة، والأخطر أنها أصبحت تُوظّف سياسيا، ناهيك عن الميليشات المسلحة التي تعزز من وجودها على حدودنا.
لقد أصبحت هذه المسألة اليوم مسألة أمن وطني واجتماعي واقتصادي وأخلاقي، ولا يمكن تحت أي اعتبار، أن نقبل أن يُضغط علينا بتوظيفها سياسيا، فهذا ليس أسلوب دول، بل أسلوب عصابات.
ورغم كل المحاولات الأردنية، واليد التي امتدت لسوريا، والتنسيق والتنازلات التي قدمناها، ولكن لا حياة لمن تنادي، ويبدو أن دمشق تفسر مواقفنا الحسنة بأنها نابعة من موقف ضعف، لكنها قراءة خاطئة.
فقد أثبت الأردن على مر تاريخه أنه أكبر من كل الصعاب والمؤامرات، وأنه لا يهادن ولا يتهاون بحماية شعبه.
خلاصة كلامي أن النظام السوري اليوم يبدو مختالا ببقائه الذي يعتبره نصرا مؤزرا، ويعتقد أن بقاءه يسمح له بممارسة ما يريد وعلى من يريد، وأنه لا نية لديه لتغيير سلوكه في القضايا الإقليمية الخلافية.
على الدولة السورية أن تعود إلى رشدها، وأن تخرج من الارتهان لظروف الحرب، التي نحاول أن نتجاوزها، فهذه الحسابات التي تمارسها اليوم حسابات قصيرة النظر وهشة ولا يمكن أن تعبر عن دولة المؤسسات المستدامة الآمنة.
لكن الأكيد أن جيشنا العربي المصطفوي يقف سدا عاليا منيعا لا يمكن لأحد أن يتجاوزه، فبينما ننام منعمين ونتجول آمنين في كل شبر من أرض هذا الوطن، يقف جنودنا البواسل على الحدود، متأهبين مترقبين كالأسود، في وجه الإرهابيين والمجرمين.
فكم من جندي أردني وهب حياته في سبيل هذه الأرض، ولأن قطرة دم أردنية واحدة، أغلى عندنا من الدنيا، فقد اتخذ جيشنا قرارا بتطبيق قواعد الاشتباك والضرب بيد من حديد على كل المعتدين، بعد أن استغل المجرمون إنسانية الجيش الأردني وأخذوا يستغلونها كعنصر مفاجأة لقتل أبنائنا على الحدود.
يوم أمس تابع جلالة الملك عبدالله الثاني تمرين الرد الحازم التعبوي على جبهتنا الشرقية، وهذه رسالة لمن يريد أن يفهم، أن جيشنا على أهبة الاستعداد لمواجهة ومجابهة كل الاحتمالات، ولن يتوانى في ضرب أي تهديد يقترب من المملكة.
اليوم يقف جيشنا على الحدود نيابة عن الجوار والإقليم والعالم، ومن البديهي أن معضلة المخدرات السورية، ليست شأنا بسيطا، فكما هي اليوم هاجس يؤرق الأردن الرسمي والشعبي، فهو كذلك غول شرس يتربص بالأرقام والدلائل بالدائرة الأوسع سواء في الخليج أو الإقليم وصولا إلى أوروبا والعالم.
وهذا تهديد لا يجب أن يُترك الأردن وحيدا في التعامل معه، بل على الأشقاء العرب والحلفاء والشركاء حول العالم الوقوف معنا، فالتهديد واحد ويطال الجميع.